أربع مسائل في رؤية الإرادة الشعبية.. تجاوز (الجمود والعدمية)

أربع مسائل في رؤية الإرادة الشعبية.. تجاوز (الجمود والعدمية)

إن تبني الماركسية اللينينية تبنياً حيوياً محدده الأساس الممارسة السياسية. على أساس هذه الممارسة والمهام التي يضعها الواقع، فإنّ القوّة السياسية تُمسك بالحي والحيوي من مبادئ النظرية، وتتسلح بما أثبتت وقائع الحراك الثوري التاريخي صحّته، وتعتمده كمنهج عمل وبذلك تتجاوز العدمية... وعلى أساس هذه الممارسة أيضاً تخطّ طريقها ورؤيتها المعتمدة على التجربة والملموس لتبتكر وتصيغ الجديد الضروري متجاوزة بذلك الجمود.

العديد من عناصر رؤية وممارسات الإرادة الشعبية التي تمت على أساس هذه القاعدة الديالكتيكية، تم انتقادها وفهمها في إطار (الوسطية)، بينما كانت تجاوزاً للجمود وخطوات جديدة– صلبة. وسنناقش في هذا الإطار خمسة جوانب منها: النموذج الاقتصادي المطلوب، القرار 2254 كطريق للخروج، المركزية واللامركزية، التجربة التنظيمية.
جميع ما سبق مسائل لا يمكن نقاشها إلا بالخروج من بيروقراطية الكلمات إلى حيوية الوقائع لفهم صحّتها، باعتبارها «مواقف ضرورية» تفهم التناقضات ديالكتيكياً وتحتويها، أمّا تصنيفها كوسطية يعكس عدم فهم الضرورة التي يطلبها الواقع...

أولاً، حول النموذج الاقتصادي

اعتبر البعض شعار (أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية) ضمن إطار (علاقات إنتاج رأسمالية) وهذا بالحد الأدنى فهم خاطئ لهذه المقولة، التي يمكن الرجوع لأساسها النظري في هذا المقطع:
(اللانمو بلا تنمية: اليوم في ظل الأزمة العميقة التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي، والتي تضطره إلى رفع معدلات نهب بلدان العالم الثالث، يمكن القول: إن كل احتياطات «النمو بلا تنمية» قد استُنفذت، وتعقد الموضوع وأصبح «لا نمو دون تنمية» أي: أنه إذا كان في السابق من الممكن تأمين معدلات نمو ولو ضعيفة في ظل سياسات اجتماعية منحازة لأقلية من ذوي الثروة، وفي ظل سياسات داخلية تمنع تطوّر الديمقراطية للناس، فإن ذلك اليوم أصبح مستحيلاً، وأية دولة تريد أن تستمر في إبقاء مبرر وجودها، وهو قدرتها على حل قضايا المجتمع، أصبح غير ممكن بالنسبة لها حل قضايا النمو دون حل حزمة القضايا الاجتماعية– السياسية الملازمة للموضوع. وفي ذلك تعبير واضح عن شكل التجلي الحالي لقانون تناسب القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، لذلك فإن الخيار الحالي: إما دولة وطنية قادرة على حل مشاكل المجتمع، وإما مجتمع قادر على إيجاد دولة وطنية قادرة على حل مشاكله، ولا مفرّ من ذلك، ويبقى الخيار الأول: هو الخيار الأقل كلفة وزمناً، أما الخيار الثاني: فهو خيار، وإن كان من المحتم الوصول إليه إذا استحال تحقيق الخيار الأول، إلا أنه خيار أكثر كلفة وزمناً والوصول إليه لن يكون طريقاً مستقيماً). (من كتاب الدكتور قدري جميل قضايا اقتصادية، ص71).
إنّ هذا الشعار لا يعني شيئاً سوى السير إلى الاشتراكية، فالمنظومة بمستوى استلابها للموارد تعيق جوانب عملية الإنتاج الاجتماعي كافة: الإنتاج والاستهلاك والتبادل، ولا يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة إلا بتحقيق أعمق عدالة اجتماعية، أي: بإعادة توزيع الثروة، وإنهاء التمركز الهائل لدى القلة والنخب عالمياً ومحلياً. أعلى نمو هو هدف لتطوير الموارد والقدرات البشرية وتحقيق الرفاه للجميع، أما أعمق عدالة اجتماعية كشرط، فهو التعبير عن أننا بحاجة لمنظومة علاقات إنتاج بديلة.
نستطيع أن نصدّع رؤوس الناس بشعارات طنانة ومفردات ماركسية، ولكن صياغة شعارات مكثفة وبسيطة هو تعبير عن فهم الضرورة، وهو تحديداً تعبير عن الخروج من النصوصية والعدمية.

ثانياً، حول القرار الدولي 2254

ينتقد البعض تركيز الإرادة الشعبية على القرار الدولي 2254 باعتباره حلّاً وحيداً، معتبرين بهذا أننا نتماهى مع رؤية أطراف دولية، أو نعتبر أن القرارات الدولية يمكن أن تحل أزمة بحجم الأزمة السورية... إن التركيز على القرار كطريق للخروج تقوم على فكرة أنّ إنهاء الكارثة الإنسانية السورية طريقه الوحيد تسوية سياسية توافقية تعيد توحيد الشعب السوري، وتُنهي الاستقطاب، وهذه التسوية يجب أن تكون دولية لأن الأزمة دولية، ويجب أن تقوم على أساس استعادة الشعب السوري لسيادته على أرضه، وبإيقاف الكارثة والانتقال إلى المعركة الحقيقية للشعب السوري لإعادة بناء البلاد، حيث يتوفّر له بيئة عمل سياسي ليتحرك، ويحل كافة المشكلات المتراكمة تاريخياً. أمّا القرار 2254 فهو ليس الغاية، بل هو الطريق إلى حل المشكلات، وهذا الطريق لم تشقّه روسيا أو غيرها، بل فرضته موازين القوى الدولية الجديدة، فرضه تراجع الغرب، وسعي القوى الدولية الجديدة وتحديداً روسيا والصين لإيجاد نموذج لحل الصراعات والأزمات، عبر إعطاء الشعوب حق تقرير مصيرها، وليس بفرض التغيير بالكسر من الخارج، أو إغراق البلاد بالفوضى وفق الطريقة الغربية. إنّ طريقة صياغة هذا النموذج المتمثلة في القرار 2254 تعتمد على دور القوى السياسية المحلية، وعلى سعيها الجدي نحو إنهاء الأزمة وإنقاذ البلاد، ولهذا فإن الحزب يعتبر أن تطبيق القرار هو مهمة إنقاذية دونها قد لا نستطيع أن نلم شمل البلاد لنسعى لاحقاً نحو التغيير الجذري والشامل والعميق.

ثالثاً، حول المركزية واللامركزية

إنّ انتقاد رؤية الحزب للبنية السياسية لسورية في المستقبل على أساس تركيب المركزية واللامركزية، تجعل هذه المقولة واحدة من المسائل التي تحتاج مزيداً من الشرح:
إن التفكير بالبنية السياسية لسورية المستقبل، يجب أن يقوم على أهداف أساسية بعضها فرضها الواقع والأزمة المستمرة منذ عشر سنوات، وبعضها مستحق تاريخياً. أولاً: الهدف الأهم هو وحدة البلاد ووحدة شعبها، وفي هذا تكمن الحاجة إلى دولة مركزية تقود جوانب أساسية شاملة تضمن الوحدة وهي تتضمن على الأقل: الجيش الواحد، والسياسات الخارجية الموحّدة، والخطة الاقتصادية التنموية الشاملة...
أما الحاجة إلى مستويات من اللامركزية فتأتي من مقولة (السلطة للشعب)، وضرورة تجاوز حالة عزل السوريين عن اتخاذ وتقييم ومراقبة أي مستوى من القرار الذي يعني حياتهم اليومية، عزلهم عن عملية إدارة مناطقهم ومواردها، تهميش دورهم في وضع الخطط المحلية ومراقبة تنفيذها، ومنعهم من انتخاب حقيقي لقياداتهم المحلية وإعطائهم حق عزلها وإلخ. إنّ أفضل برنامج مركزي (يأتي من فوق) يمكن أن يتحول إلى مسارب للفساد في بنية ترسّخت فيها قوى الفساد وآليات عملها لعقود متتالية، وهو أمر لا يمكن تجنبه إلا بإعطاء الشعب وأهالي المناطق سلطة واسعة ليتخذوا القرار ويقرروا من ينفذه، ويراقبوا التنفيذ ويمتلكوا القدرة على تصحيح المسار أينما ظهر الخلل.
إنّ التركيب الدقيق والضروري بين المركزية واللامركزية يتيح إنهاء حالة التهميش التي طالت العديد من المناطق السورية، والتي كانت واحداً من أسباب أزمة البلاد، وينهي أيضاً المركزية العالية للموارد والثروات والاستثمار في المدن المركزية، لتمتلك أية منطقة القدرة على شقّ طريق أو إنشاء مشروع مياه أو بناء مدرسة دون الحاجة لانتظار قرار المركز، الذي كان تاريخياً يخصص الموارد بمقدار القدرة على نهبها. إنّها مقولة جديدة، ولكنها تعكس سيادة البلاد ووحدتها عبر سلطة الشعب.

رابعاً، حول التجربة التنظيمية

تضمنت التجربة التنظيمية التي أسست الإرادة الشعبية اجتهادات واقعية، كانت موضع انتقاد العديد ممن رآها (خروجاً عن اللينينية وميلاً للمارتوفية)، منشأ الحديث هو التجربة التنظيمية لتيار قاسيون، ومن ثمّ اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين، والتي وسّعت الهيئات القيادية، وجعلت انتخاب الهيئات العليا في المؤتمر العام انتخاباً مفتوحاً... أي: يتم من الكوادر الأعضاء ومن الجمهور المستعد للمشاركة، وهو المتبع حتى الآن في حزب الإرادة الشعبية.
إذا كان الخلاف اللينيني المارتوفي بعمقه هو حول صلابة نواة الحزب الأساسية، فكيف يتناقض انتخاب القيادات انتخاباً عاماً مع هذه الصلابة؟! إن القيادات المنتخبة من الجمهور هي القيادات التي تحتك بأوسع شريحة من الناس، وتستطيع أن تقدم نموذجاً للممارسة السياسية اليومية، تدفع الجمهور السوري الذي يعاني من فقر سياسي دام لأكثر من أربعة عقود للمشاركة في انتخابات حزبية... وهذا إنجاز هام لأية قوّة سياسية تجعل الجمهور هدفها، وللتذكير فإن عدد الناخبين المشاركين على مستوى البلاد بلغ 21 ألف ناخب في عام 2010 جميع هؤلاء من رفاق وأصدقاء انتخبوا القيادات الحزبية من أعضاء المؤتمر، بما يعكس حيوية الحزب وتحقيق هدف عودة الحزب للجماهير، ولعبه لدوره الوظيفي.
وكذلك الأمر في صيغة المؤيد والناشط كمستويات للعضوية، فإن هذه الصيغة تعكس رؤية لواقع العمل السياسي في سورية، ولبنية المجتمع السوري الريفية والحاجة إلى مستويات من العلاقة مع الحزب، وهي تضمن فعلياً الحفاظ على النواة الأساسية من الناشطين بكامل انضباطها وحيويتها، فتتغذى من جمهور المؤيدين عندما يرتفع أداؤهم واستعدادهم لخوض العمل السياسي اليومي، وينتقل الناشطون الذين تقل فعاليتهم إلى صفوف مؤيدي الحزب. إنّها صيغة تهدف للتعبئة الواسعة، وتتيح في الوقت ذاته إبقاء النواة صلبة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
987
آخر تعديل على الإثنين, 12 تشرين1/أكتوير 2020 02:37