الارتزاق السوري... لحمٌ «رخيص» لوصل الحرائق ببعضها!
عماد طحان عماد طحان

الارتزاق السوري... لحمٌ «رخيص» لوصل الحرائق ببعضها!

تطالعنا بشكل شبه يومي أخبار متنوعة، وأحياناً صوراً وفيديوهات، لسوريين يحاربون تارة في ليبيا وأخرى في أذربيجان/ أرمينيا، مرة إلى جانب حكومة الوفاق ومرة إلى جانب حفتر، حيناً مع أرمينيا وآخر مع أذربيجان...

رغم أنّ من الصعوبة بمكان التثبت بشكل كامل من صحة سيل الأخبار عن «المرتزقة السوريين»، ورغم الإتجار السياسي الواضح في المسألة، إلا أنّ هنالك ما يكفي من القرائن والدلائل على أن الأمر حقيقي، ولعل أكثرها ثباتاً هم القتلى من هؤلاء على الجبهات المختلفة...

استثمار سياسي

ليس خافياً على من يدقق في الأمر، أنّ الجانب الإعلامي- السياسي من المسألة، ربما يكون جانبها الأكثر أهمية في كثير من الأحوال؛ فمعلوم أنّ المقاتلين السوريين الذين يجري رميهم في جبهات قتال وراء الحدود، وبعدة وعتاد خفيفين في معظم الأحيان، يتساقطون بلا أدنى جدوى تقريباً بالمعنى العسكري، والتسريبات اليومية التي تصل من ساحات الموت تؤشر على ذلك بوضوح. ناهيك عن أنّ المرتزقة السوريين في كل الساحات، وإضافة إلى جهلهم التام بالجغرافيات الغريبة التي يحاربون فيها، فإن أعدادهم، حتى في أكثر التسريبات مبالغة، لا ترقى لإحداث تغيير نوعي في أي من المعارك الجارية...

وإذاً، فإنّ من يرسلون بهؤلاء الشبان إلى الموت، يستعملونهم استعمالاً رخيصاً أقل غاياته أهميةً، هي الغايات العسكرية، في حين أنّ غايته الأساسية- في تقديرنا- هي العمل على ربط الساحات المشتعلة ببعضها؛ فكلما تشابكت تلك الساحات بات من الصعوبة فصل الملف السوري عنها، والوصول به تالياً إلى نهاياته التي نضجت منذ وقت غير قصير.
بكلام أكثر وضوحاً، فإنّ أولئك الذين لا مصلحة لهم بالحل السياسي، ومن الأطراف الإقليمية المختلفة، وكذا السورية، يسعون إلى تشبيك ووصل الحرائق الإقليمية ببعضها بعضاً، حتى تغذي كلٌ منها الأخرى بنيرانها، فلا ينطفئ أي منها... يتضمن ذلك سعياً واضحاً من أطراف داخل تركيا، وكذلك من أطراف سورية، إلى تحشيد أكبر قدر ممكن من التعقيدات في العلاقة بين ثلاثي أستانا... ليبيا مثالاً أول، وأرمينيا/ أذربيجان مثالاً أكثر وضوحاً... لأنّ كل إخلال في العلاقة بين الثلاثي من شأنه أن يزيد من وزن الغرب في سورية... والغرب، (على الخصوص: أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني)، يتطابق في إستراتيجيته اتجاه سورية مع متشدديها: كلهم يريدون مستنقعاً وحريقاً وحرباً لا تنتهي.
بالدرجة الثانية، يجري استعمال هؤلاء المرتزقة بوصفهم أوراقاً للبازار الإقليمي، فيجري التخويف بهم مرة، وبيعهم مرات... ولكن ذلك فيما نعتقد يظل أقل أهمية من الغاية الأولى؛ أي تشبيك وتوصيل الساحات المحترقة ببعضها بعضاً، لكي يحافظ المستفيدون من الحرائق- والخائفون من انطفائها- على النار مشتعلة.

من هم «مرتزقتنا»؟

إذا تركنا جانباً مسألة الاستثمار السياسي الآني، ومسألة تجنيد هؤلاء المرتزقة من الأساس، وحاولنا الوقوف قليلاً على المسألة في جانبها الوطني السوري، فلعل أسئلة عديدة تفرض نفسها بحثاً عن إجابات... وأول تلك الأسئلة هو: من هم هؤلاء «المرتزقة»، ولماذا باتوا كذلك؟
أسهل الإجابات هي تلك التي تعزو المسألة إلى الظروف المعيشية الكارثية التي يعيشها السوريون، أو تلك التي تعزوها إلى «تفكير إيديولوجي» ما... ونقول: إنها إجابات سهلة، ليس لأنها بعيدة عن تفسير حقيقة المسألة فقط، بل ولأنها تبسّط المشكلة ولا تسمح بحلها تالياً...
ما نعتقده هو أنّ الظاهرة شديدة التركيب والتعقيد، ولها أسباب عديدة ومتشابكة، ومع ذلك فإنّ أهمها برأينا هو التالي:

أولاً: استطالة الأزمة في سورية، بما أنتجته من فقر وتهميش وانهيار شامل في شبكات الأمان الاجتماعي... وفي هذا يمكن قول الكثير... ولعل ما وضعناه هنا تحت البند أولاً، يكفي وحده لتفسير المسألة إذا أردنا التكثيف؛ لأن البنود اللاحقة هي نتائجه بشكل أو بآخر!
ثانياً: المرتزقة السوريون، ووفق ما نرى من إحصاءات وشهادات وقرائن، هم بمعظمهم شبان في العشرينات من عمرهم... أي: إن هؤلاء كانوا أطفالاً آن اشتعلت الحرب في سورية، وتالياً، فإنّ قسماً كبيراً منهم لم يتابع تعليمه، أو أنه لم يحظ بأي تعليم من الأساس. وبين هؤلاء من امتهن القتال طفلاً أو يافعاً، ولم يتعلم شيئاً آخر... ناهيك عن أنّ مناطق بأسرها في سورية، تكاد تنعدم فيها احتمالات أي عمل طبيعي مستقر.
ثالثاً: الوضع الاقتصادي لهؤلاء، ليس كارثياً فحسب، بل وأكثر من ذلك، فإنّ التوصيف الأقرب إلى واقعهم ربما يكون أنهم أناس مهمشون بشكل مضاعف؛ يُعرَّف المهمَّش بالمعنى الاقتصادي بأنه العاطل عن العمل لمدة طويلة، وهذا له نتائجه الاجتماعية، إذ يفقد العاطل مع طول الفترة شعوره بالانتماء لمجتمعه وبلده، لأنّه يرى نفسه عالة رغم أنه قادر على العمل، لكن الظرف لا يقدم له أية فرصة، ويفقد تالياً أي شعور بالاستقرار، ويختل توازنه بشكل كامل. وإذا كان ما سبق هو تعريف المهمَّش، فإن التهميش المضاعف هو أن يكون المرء مهمشاً في بلد يعيش حرباً طويلة الأمد، ولا يرى أي أملٍ أو أي بصيص ضوء لنهاية تلك الحرب، ونهاية الدمار والمعاناة... ضمن هذه الإحداثيات، يشكل أيُّ انتماءٍ كان، ومهما بلغ من السوء، «فرصة» للمهمش ليشعر بوجوده... وهذا مجال واسع للاستثمار من شتى أنواع المتاجرين بالبشر.

بين التبرير والتفسير والمعالجة

يخطئ من يرى في الكلام السابق «تبريراً»، إنْ هو إلا محاولة للتفسير؛ فليس من طريقة لمعالجة ظاهرة أياً تكن دون تفسيرها بشكل صحيح.
وربما يتبادر إلى الذهن أنّ الحل يكمن إذاً في حل الأزمة السورية نفسها، وهو ما سيفتح الباب ليس أمام خلق فرص عمل فحسب، بل وأمام الاستقرار وإعادة الألق والأمل للانتماء إلى سورية كبلد يحضن أبناءه ويوفر لهم شبكات أمان اجتماعي، ويصون كراماتهم ويؤمن لهم فرص عيش وتطور.
الانطلاق في المعالجة من حل الأزمة، صحيح من حيث المبدأ بلا شك، ولكنه ليس كافياً... فإذا كان آلاف وربما عشرات الآلاف من السوريين قد تحولوا فعلاً إلى مرتزقة، فلعل أعداد من هم في ظروف تسمح بمثل هذا التحول باتت أضعافاً مضاعفة، (أي: أعداد من هم احتمالات مرتزقة). ناهيك عن أنّ المرتزقة الفعليين ينبغي التعامل معهم (أو مع من يبقى منهم على قيد الحياة) بطريقة أو بأخرى.

وفي السياق نفسه، وإذا كان الاستثمار الإعلامي- السياسي لموضوع المرتزقة السوريين يركز على المرتزقة بوصفهم سوريين يحاربون خارج سورية، أو يتقاضون أجور ارتزاقهم من أطراف خارجية، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يُسقط من الحساب أنّ بين السوريين من يحارب مرتزقاً ضمن سورية نفسها، وبين هؤلاء من يتلقى أجور ارتزاقه من أطراف سورية... وتنطبق عليهم مختلف صفات المرتزق المحارب خارج البلاد، مع فارق ضئيل هو بضع وريقات توت يجري التغطي بها ضمن فوضى الحرب...

وبالعودة إلى سؤال العلاج... فهل سيتم عبر سجون وإصلاحيات ضمن سورية جديدة يسودها نظام ديمقراطي يراعي حقوق الإنسان؟ ربما... ولكن هذه ليست سوى إجابة أولية جداً... والحال أنّ كم الأزمات المستجدة التي خلقتها الأزمة الراهنة، سيبقى عبئاً ثقيلاً على ظهور السوريين لسنوات عديدة لاحقة... وربما لهذا السبب بالذات، ولأنّ الأعباء باتت تتراكم أسّياً مع تقدم عمر الأزمة، فقد بات من الضرورة.. ضرورة وجودية لسورية والسوريين: أن يتوقف هذا التراكم السلبي، حتى يبقى هنالك حيز من الأمل للمستقبل، وإلا فإنّ استمرار مراكمة السلبيات يمكنه أن يصل عند عتبة معينة إلى نقطة اللاعودة... ولذا فإنّ الحل الفوري للأزمة عبر الحل السياسي، وعبر تطبيق القرار 2254 بات بمثابة سؤال الوجود لسورية!

معلومات إضافية

العدد رقم:
987
آخر تعديل على الإثنين, 12 تشرين1/أكتوير 2020 01:31