التصعيد مع الصين... والحسابات الأمريكية الأوروبية
سعد خطار سعد خطار

التصعيد مع الصين... والحسابات الأمريكية الأوروبية

في السنوات الأخيرة، شهد العالم تدهوراً سريعاً في العلاقات الأمريكية الصينية التي انحدرت بالفعل إلى مستوى من التصعيد لم نشهده طوال تاريخ العلاقات الرسمية بين البلدين منذ عام 1979، وذلك باعتراف وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، الذي يؤكد مراراً أن العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة والصين يمكن مقارنتها بحربٍ باردة جديدة.

مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية، والأزمة الداخلية التي تشتدّ حدتها مع تداعيات جائحة فيروس كورونا، وتنامي الاحتجاجات في عموم البلاد، تحتاج الإدارة الأمريكية إلى تصعيد حدة المواجهة مع الصين بما يساهم في تنحية العديد من الملفات الداخلية التي تحتاج إلى حل. وعلى هذا الأساس، أخذ وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، زمام المبادرة بالكامل وقام بدور نشط في إثارة هيستيريا معادية للصين على غرار هيستيريا شيطنة روسيا.

التصعيد والرد

بعد أن انتقد بشدة القرار الذي اتخذته بكين وبروكسل للعمل بجدية أكبر للتوصل إلى اتفاقية استثمار ثنائية جديدة، هاجم مايك بومبيو الصين بسبب قانون الأمن القومي في هونغ كونغ (شيانغغانغ) الذي دخل حيز التنفيذ بالرغم من كل التهديدات الأمريكية. وفي موازاة ذلك، أصبح الوضع في بحر الصين الجنوبي، حيث يدور الخلاف حول عدد من الجزر والموارد الطبيعية الموجودة حولها، ذريعة للدعاية المعادية للصين من جانب عدد كبير من الدبلوماسيين الأمريكيين. وفي 30 حزيران، في جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي حول وضع ميزانية وزارة الخارجية للعام المقبل، قال بومبيو ذاته إن الحزب الشيوعي الصيني هو «التهديد المركزي في عصرنا».
ورداً على التصعيدات التي تقودها واشنطن في المنطقة، جربت بكين، خلال التدريبات الأخيرة لجيش التحرير الشعبي، صاروخاً باليستياً أطلقت عليه اسم «قاتل حاملات الطائرات» في مياه بحر الصين الجنوبي، وذلك لمحاكاة هجوم على السفن الحربية الأمريكية.

ترليون دولار لا يستطيع أحد تحملها

في سياق توريطها لعدد من الدول من مناطق مختلفة حول العالم في مواجهتها مع الصين، تحاول واشنطن التركيز على أوروبا أثناء القيام بذلك، باستخدام اتصالات بومبيو الواسعة مع النخبة السياسية الأوروبية لهذا الغرض، وتضخ في أذهانهم باستمرار التأكيد الدعائي حول الخطر الحاد المزعوم الذي تشكله الصين في الظروف الحالية لأوروبا والعالم كله، وضرورة سحب منشآت الإنتاج الأمريكية والأوروبية من جمهورية الصين الشعبية.
ومع ذلك، فإن هذه المحاولات الأمريكية لم تتلق بعد الدعم العام الذي توقعته واشنطن، حيث قامت الشركات الأوروبية والصينية في السنوات الأخيرة بتكثيف عمليات الدمج الاقتصادي، وعلى سبيل المثال أظهر استطلاع للرأي أجراه خبراء «بنك أوف أمريكا» أن الشركات الأمريكية والأوروبية ستضطر إلى إنفاق حوالي 1 تريليون دولار أمريكي فيما لو قررت سحب منشآتها الإنتاجية من الصين، وهو المبلغ الذي سيشكل، وسط الخسائر الاقتصادية الفادحة التي تعيشها الاقتصادات الغربية، عبئاً لا يطاق على العديد من الشركات والبلدان.
لهذا السبب يوصي العديد من الخبراء وحتى وسائل الإعلام الأمريكية، بأن تتجنب واشنطن الصراع من نمط الحرب الباردة مع بكين، لأن هذا النوع من السياسة الخارجية يرتبط بمخاطر كبيرة: كالخسائر الاقتصادية المباشرة، وتأليب الداخل الأمريكي، واحتمالات خسارة مدوية تقصم ظهر واشنطن. فاليوم، لا شك في أن حرباً باردة جديدة ستؤدي إلى زيادة حادة في الإنفاق العسكري، بل وستطلق سباق تسلح جديد، ذلك في ظل عجز قياسي في الاقتصاد الأمريكي، وهذا بالتأكيد من شأنه أن يتسبب بأضرارٍ جسيمة للولايات المتحدة، التي لا تزال توازن الخطى بعد الأضرار الاقتصادية البالغة التي تكبدتها جراء تفشي فيروس كورونا.
والأهم من ذلك، وفوق كل هذه المخاطر المتوقعة، فإن الحرب الباردة الجديدة مع الصين لن تؤدي حتماً إلى نتيجة مماثلة لانهيار الاتحاد السوفييتي، أو حتى إلى نجاحٍ على نطاق أقل في المواجهة مع الصين، حيث إن موازين القوى، لا سيما فيما إذا أخذنا التحالف الصيني الروسي بعين الاعتبار، محسومة خلافاً للمصلحة الأمريكية.

المفاضلة ليست لمصلحة واشنطن

محاولات واشنطن لتشكيل تحالف مناهض للصين في أوروبا محكوم عليها بالفشل أيضاً، لأن الصين وأوروبا توحدهما الآن مشكلة مشتركة، وهي السياسة العدوانية التي وضعتها الولايات المتحدة، حيث سئم الجانبان الصيني والأوروبي من هيمنة واشنطن، وعلى الرغم من اختلاف وجهات نظرهما حول عدد من القضايا، إلا أن هنالك تشابهاً محدداً بين السياسة الصينية والأوروبية، ويكمن هذا التشابه على وجه التحديد في المواقف التي اتخذتها أوروبا والصين لحماية التعددية والتجارة الحرة.
وتأكد هذا الرأي من خلال رد الفعل النقدي من الجمهور الأوروبي بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إلى عدة دول في وسط وشرق أوروبا، حيث حاول مبعوث البيت الأبيض تأليب أوروبا ضد الصين بتصريحات مدوية. وبالتوازي مع بومبيو، زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي أوروبا أيضاً، وأعرب عن أمله في تعزيز جهود التعاون المشترك طويلة الأجل، بما في ذلك في مكافحة انتشار فيروس كورونا.
اليوم، يحتفظ العديد من حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بعلاقات ودية مع الصين. وهذا طبيعي بالنظر إلى العلاقات الطويلة بين الجانبين، لكن الضغط الذي تمارسه واشنطن ضد حلفائها التقليديين بات يدفعهم دفعاً إلى ضرورة الاختيار بين الصين والولايات المتحدة، ومتى عقدت هذه المفاضلة، فإن الخيار غالباً لن يكون لمصلحة الولايات المتحدة التي لا يوجد لديها ما تقدمه للدول الأوروبية سوى المزيد من محاولات التوريط في ملفات خاسرة سلفاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
984
آخر تعديل على الإثنين, 21 أيلول/سبتمبر 2020 14:45