الرأسمالية = العنصرية
سعد خطار سعد خطار

الرأسمالية = العنصرية

تواجه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أكبر موجة عارمة من الاحتجاجات ضد العنصرية، منذ ما عرف باسم «حركة الحقوق المدنية» في الستينات من العقد الماضي، وهي الحركة التي استنتج قادتها الأكثر جذرية، أمثال: مالكولم إكس، أنه «لا يمكن أن تكون لدينا رأسمالية دون عنصرية... وهذا يعني النضال من أجل الاشتراكية».

الاستنتاج ذاته كان قد توصل إليه عدد آخر من قادة الحركة على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، من خلال تجربتهم وممارستهم على الأرض، ومنهم: فريد هامبتون الذي نادى في أحد خطاباته المشهورة: «إننا لن نحارب العنصرية بالعنصرية، بل سنحاربها بالتضامن، كما لن نحارب الرأسمالية كتفاً إلى كتف مع الرأسماليين أصحاب البشرة السمراء، بل سنحاربها بالاشتراكية».

التصويب نحو الأهداف الأكثر جذرية

بالرغم من كل الأبهّة التي أحاطت بها الرأسمالية نفسها، مدعية انتصارها لقيم المساواة وعدم التفريق بين الناس، يلحظ الجمهور شيئاً فشيئاً زيف هذه القشرة الخارجية للرأسمالية، ويلحظ كذلك أن وصول رئيس «أسود» إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية لا يعني أن الطبيعة العنصرية الكامنة في جوهر الرأسمالية قد زالت.
نعم، يمكنك اليوم أن ترى كبار رؤوس الأموال المتهمّين بقضايا عدّة تمس أبسط حقوق الإنسان، يعلنون تضامنهم مع الحراك الشعبي في الولايات المتحدة، لكن هذا التضامن يسقط عند أول امتحان تتعرض فيه مصالح هؤلاء للخطر. وهم يستشعرون هذا الخطر في بوادر توسع مناطق الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة من الحدود الضيقة لقضية التمييز العنصري إلى مجال أوسع يتعلق بالمسائل الاقتصادية الاجتماعية ونمط توزيع الثروة، بالتوازي مع تصاعد مستوى تنظيم الطبقة العاملة وحركة الإضرابات التي لم تقف عند حدود الموانئ الغربية، بل أخذت تطال اليوم تلك الشركات التي اعتبرت حتى وقتٍ قريب «شركات الحلم» بالنسبة لشريحة واسعة من الشباب، مثل: شركة «تسلا» والعديد من شركات الطيران.
وما يدب الرعب في قلوب الأقلية فاحشة الثراء في الولايات المتحدة، أن خطاب الحركة الشعبية يتخذ منحى أكثر جذرية، مؤكداً أن الرأسمالية نظام أعمى محمول على دافع وحيد، وهو تعظيم أرباح هذه الأقلية على حساب الاستغلال الرهيب الذي تتعرض له الأكثرية الساحقة من المواطنين. وفي هذا الصدد، من الملاحظ مثلاً: أن العديد من المتظاهرين في الولايات المتحدة يرفعون اليوم قائمة أغنى 85 شخصاً على وجه الأرض (والذين تزيد ثروتهم عن أكثر من 50% من السكان الأكثر فقراً في العالم) للإشارة إلى أن هؤلاء القلة متنوعون لا من حيث جنسياتهم ولغاتهم ونطاقات عملهم فحسب، بل وكذلك في لون بشرتهم، حيث تشمل القائمة أثرياء من ذوي البشرة السمراء الذين هم جزء من النخبة الحاكمة فاحشة الثراء، التي ترتبط مصالحها بالكامل بنظامٍ رأسمالي عنصري في طبيعته.

العنصرية جزء مكون من الرأسمالية

يعمل اليوم ملايين الأمريكيين في المكاتب والمدارس والمصانع والمستشفيات ونظام النقل، ودونهم تنهار المنظومة بأكملها. وهذا بالضبط سبب الارتباك الذي سببته حركة الإضرابات مؤخراً بالنسبة لكبار الأثرياء، حيث تنمو في صفوف الأمريكيين هذه النزعة، وبات الحديث عن أن المهمة الأولى للحراك الشعبي تتعين في نقل حركة الاحتجاجات- من الشوارع إلى أماكن العمل- حديثاً متكرراً بين العمال الأمريكيين الذين عاشوا عقوداً طويلة في ظل منظومة فرضت عليهم عدم وجود أحزاب ومنظمات عمالية فاعلة وجذرية. كما هو الحديث عن أن هذه المنظومة تستخدم العنصرية للإبقاء على انقسام الطبقة العاملة وطحنها.
النخبة الرأسمالية هي أقلية صغيرة، ومن أجل الحفاظ على مكاسبها، وعلى ما تبقى من ارتباط لقاعدتها معها، تعتمد السياسة القديمة المعروفة باسم «فرق تسد»، هذه السياسة التي تشجع مختلف الثنائيات الوهمية التي تركز على التباينات غير الأساسية في المجتمع؛ فمن أجل تمويه التناقض الأساس بين رأس المال والعمل المأجور، يجري تعميم مختلف التناقضات الثانوية، ومن بينها ضمناً التناقض الثانوي بين مواطن «أبيض» وآخر «أسود».
وعلى هذا، فالعنصرية جزء مركزي في ترسانة الأسلحة التي تواجه بها الرأسمالية عدوها الأساس، الطبقة العاملة، وعلى هذا الأساس أكد كارل ماركس أنه «إذا كانت النقود تجيء إلى الدنيا وعلى خدها لطخة دم بالولادة، فإن رأس المال يولد وهو يقطر دماً وقذارة، من جميع مسامه، من رأسه وحتى أخمص قدميه» وكان يشير في ذلك إلى رعب تجارة الرقيق التي أرست الأسس المتينة للمنظومة الرأسمالية.
ومع أن العبودية قد انتهت، رسمياً، في الكثير من بقاع العالم، إلا أن أدواتها لم تنته، ومنها: استخدام ورقة التناقضات الثانوية المذكورة آنفاً. وفي المقابل، ومع تصاعد الحراك الشعبي الأمريكي، يبدي الجيل المشارك في حركة الإضرابات تصميماً مثيراً للانتباه على بناء عالمٍ جديد، وعلى المضي خطوات نحو الأمام في البحث عن بديل للمنظومة الرأسمالية التي أثخنت في جراح المواطنين الأمريكيين، وعلى هذه الأرضية، ليس من المستغرب تنامي خطاب «انتزاع الثروة والسلطة من أيدي النخبة الرأسمالية الصغيرة» في صفوف هذا الحراك، وكذلك المطالبات بتأميم الشركات الكبرى والمصارف التي تهيمن على الاقتصاد والتعليم المجاني والسكن اللائق والأجر العادل، هذا الخطاب الذي يركز على توضيح طبيعة الصراع بوصفه صراعاً طبقياً كلما حاولت المنظومة إضفاء طابع مغاير لهذه الحقيقة.
قد لا ينجز الحراك الشعبي الأمريكي مطالبه كلها دفعة واحدة، وهذا طبيعي، لكنه في موجته الحالية أثبت أنه قادر على تهديد الأساسات المتينة للمنظومة الأمريكية الآخذة بالتراجع على نحوٍ متسارع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
973
آخر تعديل على الإثنين, 06 تموز/يوليو 2020 15:36