كورونا: على أي مبادئ ننظم مجتمعاتنا؟

كورونا: على أي مبادئ ننظم مجتمعاتنا؟

في غضون بضعة أشهر منذ تفشي فيروس كورونا في العالم، نزع الوباء بسرعة لم يسبق لها مثيل هالة القداسة عن الكثير من «المسلّمات» المزيفة، وعلى وجه الخصوص منها تلك التي تقول: إن الرأسمالية هي «نهاية التاريخ»، وأن «الماركسية قد شاخت».

أول المختفين عن الساحة جراء تداعيات فيروس كورونا، هم أولئك الذين جادلوا مطولاً بأن الطبقة العاملة لم يعد لها وجود، وأن البشر قد ذابوا في عددٍ غير محدود من الهويات المختلفة، وأن التقسيم على أساس طبقي هو «تقسيم تقليدي عفا عليه الزمن لأنه لا يأخذ في الحسبان التطور البشري اللاحق لنشوء النظرية الماركسية».

العودة إلى صدارة المشهد

الملفت هنا أنك عندما تقرأ مثل هذه الأفكار الآن– في زمنٍ يُعاد فيه الاعتبار موضوعياً إلى التناقض الأساسي في الرأسمالية بين العمل ورأس المال- ينتابك إحساس عارم بأنك تقرأ نصوصاً كتبت ربما قبل قرونٍ من وباء كورونا وما نتج عنه من تفتح في الوعي العام. حيث يُجبر الكثيرون منا الآن على التفكير في تلك المسائل التي كان الخوض فيها «مملاً»: ما هو دورنا في عملية الإنتاج؟ ولماذا نقوم بعملنا؟ ومن يسيطر على هذا العمل؟ ولماذا نعمل في ظروف غير صحية؟ وهل يخدم عملنا حاجاتنا وحاجات أقراننا من جنس البشر؟ أم يخدم الربح والربح فقط؟
وإذا كانت الرأسمالية– كما تزعم- تنتج الحاجات الإنسانية فلماذا نشهد هذا الشّح في الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي والبدلات الواقية وغيرها الكثير من المنتجات التي تجاوزت البشرية صعوبات تصنيعها قبل زمن طويل؟ ولماذا يضطر العمال للذهاب إلى العمل ولا يستطيعون أن يتبعوا القواعد الصحية التي يكررها المسؤولون الطبيون؟ من أكثر المدن الغربية ثراءً إلى آخر الأحياء الفقيرة في «دول الجنوب» تطرح الطبقة العاملة على نفسها هذه الأسئلة وهي تتصدر المشهد بوصفها المنتجة الحقيقة الثروة.

الضربات والفشل المكشوف

الاستنتاج الذي لا يستطيع أحد التفلت منه هو أننا نعيش في ظل منظومة اقتصادية تُنتج بهدف الربح، وليس بهدف تلبية الحاجات البشرية. وهذا يقود إلى أن أكثر الناس أهمية في هذا الكوكب (أي العمال الذين ينتجون الثروة) هم أنفسهم الناس الذين لا تُقيم المنظومة لحياتهم وزناً.
وعلى هذا النحو، يكشف الوباء بشكلٍ واضح عن المهمة الحضارية التي ينبغي على البشرية أن تنجزها للحفاظ على حياتها: تحرير العمال من قيود منظومة الربح، وإعادة تنظيم الإنتاج على أساس تلبية الحاجات الإنسانية لا حاجات قوى السوق.
يتلقى منطق السوق ضربات حاسمة اليوم، وجميعنا رأى كيف أن القادة الغربيين الذين أعادوا وكرروا على مسامع شعوبهم مزاعم أن «الاشتراكية قد هُزمت إيديولوجياً» وأن «الاقتصاد المخطط شيء يستحيل تطبيقه في دول الغرب» وأن «الأسواق الحرة» هي الطريقة الوحيدة لتنظيم المجتمعات، رأينا كيف ينكفئون ويتدربون شيئاً فشيئاً على الظهور أمام جمهورهم بمظهر القادة القادرين على لعب دور مركزي في مقابل الفشل المكشوف للسوق التي أثبتت أنها لا تستطيع أن تصمد في وجه الطوارئ.

أزمة وفرصة من مستوى أعلى

تحدى فيروس كورونا البشرية بطرحه سؤال: «على أي مبادئ تنظمون مجتمعاتكم؟»، وكان من الواضح أن هزيمته ممكنة في المجتمعات القائمة على التعاون والتخطيط والتضامن الاجتماعي، والعكس بالعكس، فإن انتشاره أسهل في المجتمعات التي تسود فيها قيم المنافسة والجشع والربح الرأسمالي.
وتختلف هذه الأزمة عن أزمة عام 2008 في أنها جاءت بعد حالة صعود غير مسبوقة في درجة الاحتجاج الشعبي عبر العالم، وبعد تحطم الإيديولوجيا النيوليبرالية أمام صخرة الواقع، وبعد تداعي دمى «اليسار» المزيف الذي حاولت المنظومة أن تصدّر عدداً من رموزه على أنها بدائل. وبعد أن أثبتت المنظومة همجيتها المطلقة في أساليب الاستجابة لحالات الطوارئ.
لقد ربطت الرأسمالية العالم، وهذا صحيح، لكنها ربطته على النحو الذي يُسهّل مرور البضائع (في اتجاهٍ محدد) ومرور الأوبئة، وليس على النحو الذي يسمح بالتخطيط الجماعي على الصعيد الدولي لمواجهة مثل هذه الجوائح. وخلقت عالماً تحكمه قوى الفوضى الباحثة عن أعلى ربح، قوى قادرة على التخطيط العسكري لعقود قادمة، لكنها غير قادرة على التخطيط لمكافحة الأمراض. ولعل أكثر ما يُخيف في طريقة تعاطي الرأسمالية مع الكوارث الصحية والطبيعية هو أن النُّظم التي تحكمنا يبدو أنه لا طريق لها سوى التعجيل بالبشرية إلى الهلاك، فبدلاً من الاستماع إلى ما تحمله التقارير الطبية والبيئية من تحذيرات حول المستوى الكارثي الذي وصلت إليه البشرية من حيث التلوث وتدمير البيئة، تميل نخب الرأسمالية اليوم إلى وضع هذه التحذيرات في إطار التجاذبات السياسية ضيقة الأفق، وهذا ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، حيث تغدو أزمة فيروس كورونا موضوعاً لتصفية الحسابات السياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين في وقتٍ يدفع ثمن هذه السياسات الجائرة المواطن الأمريكي الذي لم تؤمن له منظومة «الحلم الأمريكي» الحماية والتأمين الصحي الضروريين.
في وقتٍ تدرك فيه النخب الرأسمالية أن أساليبها القديمة في تنظيم المجتمع لم تعد تنفع، يتضح أكثر فأكثر أن الشروط الثلاثة التي حددها فلاديمير لينين للوضع الثوري متحققة على الصعيد العالمي، أولاً: من هم فوق لا يستطيعون الحكم بالوسائل السابقة. ثانياً: من هم تحت لا يستطيعون تحمل العيش بالطريقة السابقة. ثالثاً: درجة نشاط سياسي عالٍ للجماهير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
961
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 13:01