الحركة الشعبية في لبنان بين الإحجام السياسي والتعطّل التاريخي للنظام
عند تقييم تطور الحركة الشعبية في لبنان، والمهام المطروحة عليها في إستراتيجيتها وتكتيكها، لا يمكن تخطي توصيف الأزمة الخاصة بالنموذج اللبناني، في تعقيدها، ربطاً بالأزمة العامة للإمبريالية وانعكاسها على المنطقة. وفي سياق جدلية: الحركة الشعبية- أزمة النظام، تتوضح ملامح اتجاه الحركة الشعبية وأسباب الانغلاق النسبي لأفقها الراهن.
من إيطاليا: الاقتصاد السياسي لتفكك النموذج اللبناني ومعانيه
في كتاب «محاضرات في الفاشية» الصادر عن دار الفارابي- بيروت (1981-طبعة ثانية)، هناك مجموعة من المحاضرات التي ألقاها زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي في موسكو عام 1935 أمام مجموعة من العمال الإيطاليين. في سياق تقييمه للظاهرة الفاشية يركّز تولياتي على السياق الإيطالي، وهذا ما يهمنا فيما يتعلق بالنموذج اللبناني من حيث ضعف تطور الاقتصاد الرأسمالي التقليدي (الإنتاج الصناعي) وانعكاسه على البنية الاجتماعية من حيث دوره في بلورة التمايزات وفرزه الواضح للقوى الطبقية إلى فئتين متصارعتين نقيضتين: البورجوازية والبروليتاريا، وانعكاس ذلك على الحياة السياسية وأحزابها وجهاز الدولة. ويقول تولياتي: «إن الظاهرة السياسية هي نتيجة مباشرة لبنية الاقتصاد الإيطالي. هذا الضعف السياسي هو نتيجة لواقع أن الصناعة الكبيرة ليست بقادرة على تنظيم كل الحياة الاقتصادية للأمة،» كبقاء ثقل كبير للاقتصاد الزراعي والفئات الوسطية. ويُكمل تولياتي بأنه في إيطاليا توجد جماعات وأحزاب لم تُفلِح بالتوحد في تيار متماسك يمثِّل تيارات البورجوازية الإيطالية. بل على العكس، الحدود بين الأحزاب غامضة، إلى حد أن الوجود غالباً هو لزعامات فردية ومناطقية ومجموعات ضيقة. ويعتبر تولياتي أن هذه الميزة الإيطالية صعّبت من وحدة البورجوازية وقدرتها على ممارسة السلطة بشكل يمكّنها من المناورة وإيجاد المخارج، وهو من الأسباب التي مهّدت للفاشية كمخرج من الأزمة الاقتصادية والسياسية على السواء، في ظل تصاعد الحركة الشعبية.
الدروس من إيطاليا تشكلّ أحد المراجع المناسِبة لمقاربة ظروف الدول التابعة من حيث تخلّف تطوّر البنية التقليدية للبورجوازية، ولكن لبنان أكثرها، كونه لم يشهد ظاهرة ما سمي بالـ «البورجوازية الوطنية» التي شكَّلت إلى حد ما قاعدة تصنيعية وسيادة تيار حاكم عبر حزب حاكم واضح المعالم، كصورة لتوحّد قوى طبقية مختلفة. وهذا التوصيف يساعد على تحديد أزمة النظام والسلطة في التعامل مع الأزمة السياسية- الاقتصادية في البلاد. فلبنان التّبعي تمتاز فيه الطبقة المهيمنة بالريعية والنشاط المالي تاريخياً، ولاحقاً انضم إليها تطور الفساد الكبير الفاعل عبر حضوره في جهاز الدولة.
تفكك مضاعف
لبنان يشهد تضخّماً في التجمعات والزعامات والأحزاب المحدودة الانتشار (على مستوى البلاد) وحتى أفراد لهم حضورهم السياسي، ما يعكس عجز العلاقات الرأسمالية عن القضاء على العلاقات السابقة عليها بشكل بارز في لبنان. ومضافاً إلى السبب الاقتصادي- الإنتاجي للتفكك، هناك الطابع السياسي للنظام النابع من شكله الطائفي التحاصصي، لأن هكذا نظام يفقد تماسكه السياسي في ظل غياب قوة «طائفية» مهيمنة فيه (تحديداً ما انعكس في اتفاق الطائف). وشكّل التّحاصص السّياسي أرضية لعلاقات مصالح اقتصادية وسياسية متضاربة عبر جهاز الدولة والاستزلام والفساد الكبير، وهو ما عظّم من تناقضات النظام. فهو قد بدأ بالتعطل عند اختلال موازين القوى عالمياً وبرزت بوادر الهجمة الأمريكية المباشرة (2005) فكانت محطة اغتيال رفيق الحريري والانقسام 8 و14 آذار، وكانت محطة اتفاق الدوحة، وأزمة الرئاسة، وأزمة قانون الانتخابات النيابية، وأزمة تشكيل الحكومة السابقة. إذاً نحن أمام تفكك مضاعف، وله امتداد خارجي (تمويلي واقتصادي متناقض) ولا ينحصر بالبنية السياسية- الاقتصادية اللبنانية بشكل رئيس، أي هناك مصالح مادية وجودية تمويلية مباشرة لبعض القوى السياسية في لبنان تؤثر على التموضع السياسي (المتناقض) لهذه القوى ربطاً بالصراع العالمي والإقليمي، ولا يمكن تحليله انطلاقاً من تحليل بنية الفساد وتحكم رأس المال المالي الداخلي فقط، أي العلاقات الاقتصادية الخاصة بالنظام فقط.
التفكّك وانغلاق المخارج
أمام هكذا تناقض وانقسام سياسي تفقد السلطة القدرة على المناورة تحت ضغط تناقضاتها الداخلية والخارجية في التعامل مع الأزمة، ليس فقط لأن الأزمة تتطلب إجراءات جذرية تتجاوز النموذج المرتهن للدولار ولرأس المال المالي الداخلي والعالمي، وتجاوز نظام التحاصص الطائفي، وضرب الفساد الكبير، بل لأنها لا تستطيع حتى المناورة في التعامل مع الأزمة بسبب الصراع بين مكوّناتها. وهنا يبرز دور الحركة الشعبية المتصاعدة في تشكيل عامل تضييق لهامش المناورة السلطوية، المحدود أساساً.
وهنا نعود إلى تولياتي، بأن تعطل المخارج أمام القوى البورجوازية الأكثر رجعيّة دفع نحو الخيار الفاشي. ولكن يمكن اليوم القول إن التوازن العالمي والإقليمي وحتى الداخلي اللبناني قد أبعد الخيار الفاشي وأدواته إلى حدود ضيقة جداً (ظاهرة داعش-لبنان، وأخواتها كظاهرة «الشيخ الأسير»)، خصوصاً أنه كان من الصعب أن تتشكل ظاهرة فاشية داخلية بسبب عدم قدرة التيارات الحاكمة في توحدها ضمن تيار سياسي وتنظيمي متماسك كشرط للظاهرة الفاشية (داخلياً) (وهو ما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية كمطلب وضرورة للطغمة المالية اللبنانية وقتها لضرب الحركة الشعبية الثورية والمقاومة الفلسطينية).
وإذا تعطل الخيار الفاشي، فما هو المخرج المطروح أمام الاتجاه الأكثر رجعية الذي يمكن القول مباشرة إنه مرتبط برأس المال العالمي؟ إن الخيار هو الإبقاء على الدفع باتجاه الفوضى. الفوضى التي يعززها الانهيار الاقتصادي وتعطل النظام السياسي، وحرف الحركة الشعبية عن المسار التقدمي السياسي للتغيير. هكذا حصل في تسلق الحركة والسطو على أداة قطع الطرقات بعد استقالة الحريري الابن، التي كانت استقالته بهذا السياق، وحصل عند خروج قوى الغرب المباشرين من الحكومة لتفجير الصراع السياسي والعودة للثنائية السلطوية. إذاً في ظل وجود دفع إمبريالي خارجي نحو الفوضى وإطالة أمد الأزمة يتعزّز أكثر هذا الدفع عند الانغلاق السياسي لتطور الحركة الشعبية. فيتحول الشارع وحده إلى أداة للتعبير عن الغضب الشعبي والتهميش، ولكنه اليوم في كونه تركّز نحو المصارف بشكل أساس فهو لا زال يحمل ملامح مرتبطة باتجاه التغيير. ولكن بشكل عام إن عدم التطور السياسي للحركة عبر إطار سياسي وخطاب جامع وبرنامج ناظم، فإن الفوضى قادرة على التجدد.
هذا الانكباح التاريخي والبنيوي في المناورة أمام قوى السلطة السياسية والقوى الطبقية من خلفها أنتج مثلاً ورقة «الحريري الإصلاحية» التي ماتت قبل أن تولد، وعطّل طويلاً حكومة تكنو-سياسية، ليُطرح بعدها حكومة تكنوقراط(التي تشكلت الأسبوع الحالي) كمناورات. وحتى في تشكّل الحكومة الحالية فهي محكومة بالعجز لأن أي طرح ستقدّمه غير نابع من تجاوز عمق الأزمة الفعلي بشكل جذري سيلغي دورها(الحكومة) كمخرج مؤثر. خصوصاً أن الحركة الشعبية طرف أساس في المعادلة، وأية مناورة ستصطدم بمزاج شعبي ينتظر أكثر من تغيير وجوه.
إستراتيجية الحركة الشعبية وتكتيكها
أمام هذا العجز والتعطّل البنيوي والتاريخي للنظام الاقتصادي والسياسي، لا زالت الحركة الشعبية وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على تصاعد زخمها لم تقتحم المشهد سياسياً. ولا زالت في موقع الانتظار سياسياً، ومطالبة السلطة بتحقيق مطالب الحركة نفسها! بينما تُحجم قوى أساسية في الحركة الشعبية عن الاستعداد لخوض مسؤولية السلطة، أمّا المطلوب هو سد الفراغ السياسي الناتج عن تعطّل النظام، وترجمة اختلال التوازن الشعبي إلى توازن سياسي جديد، وتعديل موازين القوى داخل السلطة نفسها، كخطوة أولى انتقالية، وفاتحة لتوسيع رقعة التغيير الجذري، هذا الاقتحام سيعيد ترتيب المشهد كلّه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 950