اتجاهان في «تطبيع» العلاقات العربية مع سورية...
تلاحقت خلال الأسبوعين الماضيين مجموعة من الإشارات حول اقتراب عودة شكل ما من العلاقات الطبيعية بين سورية والدول العربية، بما في ذلك الحديث عن عودة سورية لشغل مقعدها ضمن الجامعة العربية...
من بين الإشارات الواضحة في هذا الإطار، تلك التي ظهرت في كلمة القائم بالأعمال الإماراتي في دمشق مؤخراً، وكذلك حضور صحفيين سوريين في مؤتمر في السعودية، وتكرار العراق دعوتها لعودة سورية إلى الجامعة، بالتوازي مع إشارات مشابهة جاءت من كل من السودان ومصر والأردن.
وقبل الدخول في معاني هذه الإشارات وأبعادها، لا بدَّ من التذكير بأن إشارات مشابهة كانت قد ظهرت قبل ما يقرب العام، وكانت موسكو قد عملت على الخط بين العواصم العربية بشكل علني وواضح ونشيط، ثم توقفت فجأة كل الإشارات الإيجابية بعد ما بدا أنه إيعاز من واشنطن لعواصم عربية لتجميد الموضوع. ترافق ذلك مع كلام علني من جيمس جيفري حول الدور الأمريكي في عملية التجميد هذه.
الاتجاه الروسي
سواء في المحاولات التي اشتغل عليها الروس في العام الماضي، أو تلك التي يبدو أنَّ العمل جارٍ عليها هذه الأيام، يمكن تحديد الاستهداف العام بالأفكار التالية:
• إنهاء حالة التوتر بين دول عربية وسورية، هو جزء أساس من إنهاء حالة التوتر العامة في كامل الإقليم، بما في ذلك البدء بتخفيض التوتر في العلاقات الإيرانية- السعودية، والتركية السعودية، وهو أمر لا غنى عنه في إطار الاستهداف العام الروسي الصيني لإنهاء الأزمات في المنطقة وإنهاء حالة «الفوضى الخلاقة» الأمريكية، التي باتت الأداة الأساسية الوحيدة بيد الأمريكان لتأجيل دفن الأحادية القطبية.
• إنهاء حالة التوتر بين دول عربية وسورية، يعني خلق حالة إقليمية أكثر احتضاناً ومناسبة للحل السياسي في سورية، ما يعني ضمناً بيئة أكثر جاهزية لإنهاء ملف الإرهاب بشكل كامل في المنطقة، ولمنع تقسيم سورية الذي يهدف إلى تحويلها إلى صاعق انفجار لكامل شرق المتوسط وصولاً إلى الحدود الروسية.
• في ظل الإصرار الأمريكي على مسألة العقوبات، وعلى منع إعادة الإعمار، ومنع تمويلها، (كأحد عناصر استنزاف البلاد ومنع إنهاء أزمتها)، فإنّ أحد المخارج الجدية لحل هذه القضية، هو تهدئة الجو الإقليمي، وتحسين العلاقات البينية، بحيث يصبح ممكناً الاستغناء كلياً عن أي تمويل غربي.
• ما يقال عن عمل روسيا صوب إصلاح ذات البين بين الدول العربية، بوصفه محاولة لما يسمى «إعادة تأهيل النظام»، ليس أكثر من بروباغاندا سياسية لأولئك المعادين للحل السياسي، الحل الذي هو الطريق الوحيد للدخول نحو تغيير النظام بشكل جذري وعميق، وعلى أسس وطنية تحافظ على سورية في تموضعها التاريخي المعادي للمشاريع الأمريكية الصهيونية.
الاتجاه الأمريكي
إنّ العناصر السابقة للمشهد، لا تغطِّيه بأكمله؛ فهنالك اتجاه يبدو متقاطعاً شكلياً مع الاتجاه الروسي، بل ويكاد يصعب بالمعنى العملي التفريق بينهما، رغم أنهما اتجاهان متعاكسان تماماً...
لا يغيب عن البال أنّ الصراع الدولي يأخذ أشكالاً وتمظهرات مختلفة على المستويات الإقليمية والمحلية؛ بكلام آخر، فإنّ الاصطفاف عبر السنوات الثلاث الماضية على المستوى الإقليمي، اتخذ شكلاً ثابتاً تقريباً: ثلاثي أستانا ضمن الاتجاه الروسي الصيني، والجامعة العربية ضمن الاتجاه الغربي. بل وتبلور ذلك في «مجموعتين» دوليَّتين: أستانا (روسيا، تركيا، إيران)، والمجموعة المصغرة (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، السعودية، الأردن، مصر).
أمام هذا الانقسام الحاد، ربما يكون من غير المفهوم للوهلة الأولى، لماذا يمكن أن تسير دول عربية في الركب الروسي إن جاز التعبير في مسألة تسوية العلاقات مع دمشق؟ ولكن مجموعة من العناصر يمكنها أن تفسِّر هذه المسألة:
أولاً: لا شكَّ في أنَّ الدول العربية المختلفة، والخليجية خصوصاً، دخلت كما كل دول العالم مرحلة إعادة ترتيب حسابات إستراتيجية في إطار التجاوب مع التغيير الواضح والبيّن في مواززين القوى الدولية، وبطبيعة الحال، فإنّ على رأس إعادة الحسابات تلك، إعادة النظر في العلاقة مع موسكو ومع بكين. ما يعني أنّ «مسايرة» الروسي في عدد من المسائل، حتى إن تم تبييت نية معاكسة، هو الحد الأدنى الذي لم يعد ممكناً النزول تحته في العلاقة مع روسيا بالنسبة لبلدان عربية متعددة.
ثانياً: مع تعزز الأزمة الأمريكية، تتعزز عمليات النهب والتشليح والسطو التي تقوم بها واشنطن تجاه حلفائها التاريخيين، وصولاً إلى حدود يصعب احتمالها مهما كانت درجة التبعية، وهو الأمر الذي يعزز تيارات داخل الدول العربية ككل، وداخل كل منها على حدة، تيارات تسعى للاستقلال عن الأمريكي، وفي هذه أيضاً شيء من تفسير توجُّه بعض الدول العربية نحو «تطبيع» العلاقات مع سورية.
ثالثاً: الأمريكي يرى ما يجري، ويفهم أنه اتجاه موضوعي يصعب منعه طويلاً، وإنْ كان قد تمكن السنة الماضية من ضرب فرامل أوقفت العملية بالكامل، فإنّه يعي أنه غير قادر على فعل ذلك اليوم. ولذا فإنّ المنطقي هو أن يحاول البحث عن طريقة تجعل من العملية نفسها استثماراً مربحاً له، وهنا نصل إلى جوهر الاتجاه الأمريكي في مسألة (تطبيع العلاقات)... المسألة ببساطة هي التالي، بما أنّ الروس يدفعون بهذا الاتجاه، فلندفع نحن أيضاً، ولكن استناداً إلى تكريس العداوة بين تركيا وإيران من جهة، وبين الدول العربية من جهة ثانية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزاحمة منظومة أستانا نفسها، عبر إحياء منظومة إقليمية (الجامعة العربية)، التي لم يكن لها دور خلال السنوات الماضية.
تكريس تناقض بين منظومتين إقليميتين، ربما يمكن التعويل عليه من وجهة نظر من لا يريدون الحل السياسي في سورية؛ لأنه سيعطي المتشددين (أو هكذا يتوهمون) مجالاً إضافياً للمناورة بين المنظومتين، بحيث يجري تمديد الأزمة بشكل إضافيّ. ومن وجهة نظر الأمريكي، لا يجري تمديد الأزمة فحسب، بل وتعميقها وفتح الباب أمام الاحتمالات الأكثر خطراً، وعلى رأسها احتمال التقسيم.
ما سيجري على أرض الواقع
نعتقد أنّ التجاذب بين الاتجاهين سيستمر بعض الوقت، وعلى أرضية تقدم بطيء نسبياً، ولكن ثابت في مسألة تحسين العلاقات البينية العربية. ولن يكون ثمة مجال لاستثمار المتشددين في التناقضات الإقليمية، لأنَّ التوقيتات الزمنية المستحقة لمنع انفجار جديد في سورية، أقصر بكثير من تلك اللازمة لعودة العلاقات مع الدول العربية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 945