عن دوامة الشمال الشرق
التبس على كثيرين ما جرى خلال الفترة الماضية وما يجري حتى الآن في مناطق الشمال الشرقي من البلاد، وتحديداً منذ قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من سورية، وردود الأفعال عليه، ومن ثم التراجع الجزئي عن القرار، ليستقر الأمر ببقاء قوات أمريكية «لحماية حقول النفط».
الانسحاب توقيت مريب
القرار الأمريكي بالانسحاب جاء في لحظة حساسة جداً، وتحديداً بعد أن تم رفع منسوب التوتر بين تركيا وقوات سورية الديمقراطية إلى حده الأقصى، وعندما وصل التوتر إلى الذروة، انسحبت القوات الأمريكية فنشأت حالة الفراغ المؤقته، لتكون مئات الضحايا من مقاتلين ومدنيين، وآلاف الجرحى ومئات آلاف المهجرين ضحية العدوان التركي الهمجي على مناطق رأس العين وتل أبيض، ولتسود حالة عامة من الترقب والقلق والتوتر في عموم الشمال الشرقي، وليتأكد للمرة الألف، بأن الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية هي آخر ما تفكر به واشنطن، وإن الاعتماد عليها في أية إستراتيجية هو في أحسن الأحوال أحد ضروب الأميّة السياسية.
في تفسير التخبط الأمريكي
ربما الأهم من الحديث عن نتائج العدوان التركي، ومقدماته ودلالاته، التي باتت معروفة للجميع، بحكم التجربة الملموسة، الأهم من ذلك، هو تفسير السلوك الأمريكي الذي اتسم بالتخبط والتناقض والارتباك، وفهم خلفية قرار الانسحاب، ومن ثم التراجع الجزئي عنه، فعلى أساس تفسير هذا السلوك يمكن الاستدلال على الطريق للخروج من الدوامة التي تاهت فيها أغلب القوى السياسية، وخصوصاً تيار الإدارة الذاتية، ودهشتها، وتفاجئها بما حدث، ويمكن أيضاً من خلال هذا التفسير التكهن باحتمالات تطور الأوضاع في هذه المنطقة خلال المرحلة اللاحقة.
لا يمكن فهم حقيقة ما حدث بأبعاده الكاملة، إلا من خلال فهم طبيعة الانقسام الداخلي الأمريكي، والصراع الدائر بين قوى النفوذ في الولايات المتحدة عامة، وضمن الإدارة الأمريكية بشكل خاص، الذي تجلّى بشكل واضح في مختلف المؤسسات الأمريكية، خلال الأيام الفائته.
وصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض على أساس برنامج واضح وصريح من أهم بنوده: أمريكا أولاً، والانكفاء إلى الداخل، ونجح في الانتخابات الرئاسية بهذا البرنامج، رغم وقوف أغلب النخب السياسية الأمريكية ووسائل الإعلام ضده، فما معنى ذلك؟
إن المعنى الوحيد لنجاح ترامب في حينه على عكس كل التوقعات، هو أن نخبة صناعة القرار الأمريكي الحقيقية، التي تصنع الرؤوساء، قد حسمت أمرها، بالسير على طريق إستراتيجية الانكفاء، بما يعنيه ذلك من انسحاب أمريكي تدريجي من بقاع مختلفة من العالم، وبالأخص تلك المناطق قليلة الريع.
إستراتيجية الانكفاء اصطدمت وتصطدم وتتناقض مع مصلحة قوى أخرى في الإدارة وما حولها، قوى ازداد نفوذها، وتضخم دورها في ظل السياسات النيوليبرالية – العولمة - خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث التمدد والتوسع وتحديداً تلك القوى التي تعشعشت في الجهاز التنفيذي من موظفين في مختلف المستويات والرتب، ومراكز الأبحاث، والمستشارين، ومدراء البنوك، ووسائل الإعلام.
تُبين التجربة الملموسة، أن الصراع بين هذين التيارين في الإدارة الأمريكية حول أية قضية، كان يُحسم في النهاية لصالح جماعة الانكفاء، على الرغم من محاولات الطرف الآخر، وقدرته على تأخير ذلك، بما يمتلكه من نفوذ واسع، هكذا كان الأمر في موضوع التدخل الروسي المزعوم لصالح نجاح ترامب، وفي ملف كوريا الشمالية، والملف الإيراني، فعلى الرغم من الهيستريا الإعلامية، والتوتير المفتعل انكسرت كل هجمات هذا التيار أمام متاريس أصحاب خيار الانكفاء، وهو ما يعني أن الرهان على الدعم الأمريكي، حتى من الناحية البراغماتية الصرفة، ينطوي على مغامرة كبيرة، الأمر الذي اقتنع به أعتى حلفاء واشنطن، بما فيه شركاؤها الاوربيون في حلف الأطلسي، حتى باتوا في (حيص بيص) جراء سلوك الحليف الأكبر.
ما نريد التأكيد عليه بعد هذا العرض، إن المآل النهائي للقوات الأمريكية هو الانسحاب، ولا يتوهمن أحد مرة أخرى ببقاء هذه القوات، وبناء إستراتيجيات على أساس ذلك، فالذي حدث أن تسوية مؤقته، تمت بين التيارين من الممكن أن ينفرط عقدها في أية لحظة، في ظل الصراع الحاد في الإدارة، سواء بقي ترامب أم لم يبق.
وجوهر هذه المسألة أنَّ المنظومة برمتها تعاني من أزمة عميقة عصية على الحل، ومتطلبات الحفاظ على المنظومة يفرض بالمحصلة على جميع أركانها الانكفاء.
أخطاء الإدارة الذاتية
مع التقدير للدور الذي لعبته قوات سورية الديمقراطية في التصدي لداعش والعدوان التركي، والتضحيات الكبيرة التي تم تقديمها على هذا الطريق، فإن تيار الإدارة الذاتية في المجال السياسي وقع في خطأين إستراتيجين، دفع ثمنهما أبناء الشمال عموماً، والكرد السوريين بالدرجة الأولى:
-الخطأ الأول: الدخول في دائرة التجاذب الدولي والإقليمي، وما ترتب على ذلك من أوهام الاستفادة من التناقضات القائمة بين الأطراف المختلفة، لفرض حل خاص ومنفرد فيما يتعلق بالشمال الشرقي، وجعله أمراً واقعاً، بمعزل عن الحل الوطني العام للمسألة السورية، حتى جاءت الوقائع من عفرين ورأس العين لتكشف بطلان ذلك.
-الخطأ الثاني: هو الدخول في تعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بداية وفي متاهة الانقسام الأمريكي نفسه، والرهان على بعض القوى في الإدارة الأمريكية، في تسويق مشروعها. مع العلم أن المعركة بين طرفي الانقسام الأمريكي، هي معركة كسر عظم، وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مصير الولايات المتحدة نفسها ودورها العالمي، وليس فقط مصير حلفائها الكبار والصغار.
لقد كان ثمن الخطأ الأول احتلال عفرين، أما ثمن الخطأ الثاني هو رأس العين وتل أبيض، ولولا الدور الروسي المتوازن لكان مصير كل مناطق الشمال الشرقي، كوضع عفرين ورأس العين وتل أبيض.
ما يدعو إلى التذكير بهذين الخطأين، هي تصريحات البعض في الإدارة الذاتية التي لم تتعظ كما يبدو رغم كل ما حصل حتى الآن، والرهان مجدداً على بعض القوى في الإدارة الأمريكية، ومنهم ليندسي غراهام رغم أنّ موقف هذا الصديق الجديد كان على يمين موقف ترامب في يوم ما، وحسب تقرير موقع cnn نشر في 19 كانون الثاني 2019 قال غراهام: (إن قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بسحب القوات من سوريا يجب أن يخدم ثلاثة أهداف، تتمثل بهزيمة «داعش» ومنع انتصار إيران وحماية تركيا.
وحول إنشاء مناطق عازلة في الشمال السوري، قال غراهام: (القيام بذلك بشكل صحيح أمر مهم.. إنجاح خارطة طريق منبج في الوقت الراهن، هو الشيء الأهم. آمل أن ينسحب ترامب تدريجياً من سورية بعد القضاء على داعش، ويطبق خارطة طريق منبج كإجراء لتعزيز الأمن، وبذلك يتم تطهير منبج من عناصر ي ب ك، وتسليم المنطقة لأهلها عبر التعاون مع تركيا. إن لم نفعل ذلك فإن انسحابنا يشكل مصاعب كبيرة لتركيا).
مهام وطنية سورية
إذا كان المطلوب من قوى الإدارة الذاتية، الخروج الفوري من هذا الملعب الخطير، كضرورة وطنية سورية، وضرورة من جهة مصالح من تمثلهم الإدارة الذاتية، فإن المطلوب، وقبل ذلك من إعلام النظام التخلي عن الخطاب الاستفزازي، والاستعلائي، خطاب الشماته والتشفِّي تجاه هذه التجربة، أو التعامل معها بمنطق الاحتواء والابتلاع، على طريقة (العودة إلى حضن الوطن)، وما يحمله ذلك من إشارات محاولة العودة إلى ما قبل 2011.
ومطلوب من القوى الوطنية السورية عموماً ألَّا تنسى، أو تتجاهل تحت أي ظرف كان، بأن هناك مسألة كردية بحاجة إلى حل في إطار عملية التغيير الوطني الديمقراطي، والانطلاق دائماً بأنه لا يمكن حل الأزمة السورية حلّاً حقيقياً، إلّا إذا كان حل المسألة الكردية أحد مفرداتها، وليس هناك ما يبرر الاستمرار في تطنيش هذه المسألة، أو التحجج بمواقف بعض القوى الكردية، للالتفاف عليها.
صحيح تماماً بأن الإدارة الذاتية ليست هي التي جلبت القوات الأمريكية إلى سورية، ولكن بالتأكيد إن هذه القوة اعتمدت على الوجود الأمريكي في رسم إستراتيجياتها، ورؤاها، وهنا تكمن المشكلة بالضبط، فأمريكا المأزومة والمنقسمة على نفسها من الممكن أن تنقلب على جورج واشنطن نفسه، وتنبش قبره وتبيع رفاته في صفقة ما، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأحمال زائدة، وجهة ترى في التعامل معها مجرد تنسيق عسكري لـ(محاربة الإرهاب)، وهو ما تكرره جميع أركان الإدارة الأمريكية بمناسبة ودون مناسبة، ناهيك عن التصريحات التافهة والاستفزازية الصادرة مؤخراً من نخبة واشنطن التي تحاول تصوير هذه القوة على أنهم مجرد حراس نفط، ومراقبي سجون داعش!؟
إن المخرج الوحيد للخروج من هذه الدَّوامة، هو الاصطفاف إلى جانب قوى الحل السياسي، والسعي إلى تنفيذ القرار الدولي 2254، ففي ذلك وحده ضمانة الحقوق، وفي ذلك وحده ضمانة ردع تهديدات تركيا، وفي ذلك وحده الخروج من تحت الابتزاز الأمريكي، المأزوم والمتراجع، الذي لم يعد يستطيع فعل أي شيء سوى أن يترك وراءه المزيد من الفوضى والتوتر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 938