لماذا زحمة مبادرات حل الأزمة؟
ظهرت خلال الشهرين الماضيين عدة مبادرات لحل الأزمة السورية، ونقصد هنا المبادرات التي أعلنت من تجمعات وشخصيات سورية وتحت عناوين متعددة.
ورغم أنّ المشترك بين هذه المبادرات هو عدم وضوح الخارطة الضمنية التي تستند إليها، وهذا من طبيعة الأمور في مسائل من هذا النوع، إلّا أنّ المشترك الأكثر أهمية بين القسم الأعظم من هذه المبادرات هو قفزها عن أية إشارة للقرار 2254، بل وعلى العكس يتضمن قسم من هذه المبادرات ما يشير بشكل شبه علني إلى «ضرورة» تجاوز 2254... فكيف يمكن تفسير ذلك، وما الهدف منه؟
الركود على وشك الانتهاء
يمكن القول: إنّ حالة من الركود قد سيطرت على الملف السوري ابتداءً من الشهر التاسع من العام الماضي؛ فعلى الصعيد الميداني، وبعد ما يقرب من عامين متواصلين من تضييق مساحات العمل المسلح، توقفت الأمور (شكلياً) عند حالتين معقدتين في إدلب والشمال الشرقي. وعلى الصعيد السياسي، ورغم الصخب العالي الذي رافق تحركات دي مستورا وجيفري حول اللجنة الدستورية، إلا أنّ شيئاً لم يتحقق بعد بصيغة نهائية.
يمكن القول أيضاً: إنّ الكباش الدولي خلال الأشهر الستة الماضية وصولاً إلى اليوم الذي أطلق فيه ترامب إعلانه حول الجولان، كان يدور بأسره حول نقطة واحدة أساسية: ما هو مصير أستانا؟
وأستانا التي نعنيها هنا ليست مجموعة عمل مؤقتة بين دولٍ ثلاث جرى إنشاؤها لحل قضية اهتمام مشترك فحسب، بل وأهم من ذلك وأعمق بمراحل، إنّ مجرد وجود ثلاثي أستانا جنباً إلى جنب يعني «خرقاً» غير مسموح به غربياً، وأميركياً على الخصوص، ضمن نظام العلاقات الدولية القائم على حرب الجميع مع الجميع التي يديرها الأمريكي.
نقول: إنّ مصير أستانا كان النقطة الأساسية، لأن السلوك الغربي بمجمله، وضمناً سلوك دي مستورا، كان موجهاً لمحاولة ضرب الثلاثي بعضه ببعض عبر مختلف الوسائل والملفات المتاحة، من اللجنة الدستورية إلى إدلب إلى الشمال الشرقي ووصولاً إلى العقوبات والتهديدات المتكررة، ولا عجب أنّ صوت جيمس جيفري كان عالياً خلال الأشهر الأخيرة من العام الفائت وهو الخبير في الشأن التركي، والذي تم اختياره مع مهمة واضحة: ينبغي ضرب العلاقة بين روسيا وتركيا...
حصيلة الأشهر الستة تظهر جلية بخط السيل التركي وبصفقة S-400 وبتعظيم التبادل التجاري الروسي التركي الإيراني، وبالموقف الموحد لهما من العقوبات الأمريكية وبالعمل الجاد على تنشيط واستحداث آليات جديدة لإغلاق الباب أمام تأثير تلك العقوبات.
هذا كله بات واضحاً لدى المركز الأمريكي، ولم تعد مجدية محاولة تخريب أستانا، ولذا بات من الضروري الانتقال إلى إعلان المواجهة معها (وفي العمق، المواجهة مع التوازن الدولي الجديد الذي تعبر عنه)، وفي الملفات كافة، وبينها الملف السوري، وهنا جاء إعلان الجولان الذي يمثل خطوة متقدمة ضمن سيناريو «صفقة القرن» الذي يعني في عمقه: تمركز الولايات المتحدة على قاعدتين متبقيتين لها في المنطقة، إحداهما: هشة وقابلة للانفجار في أية لحظة، وهي الخليج. والثانية: أقل هشاشة ولكن أعلى تأزماً: الكيان الصهيوني.
ضرورة استمرار الأزمة السورية
ولكن الشرط الأساسي لإنجاز إعادة التموضع هذه بنجاح، أي: بما يضمن بقاء هاتين القاعدتين منصتين للتخريب الإقليمي، وليس قاعدتين معزولتين محاصرتين، الشرط الأساسي، هو: استمرار الأزمة السورية، بل وتعميقها وصولاً إلى تفجير جديد إن أمكن.
وهذا الشرط الأخير يوضح الهدف من تعميق العقوبات المتصاعد، ومن التمسك بمنع أي تغيير في البنية القائمة التي يتحكم بها في نهاية المطاف فاسدون كبار لا يعنيهم سوى استمرار نهبهم ونفوذهم، وإنْ اتخذ شكل أمراء الحرب.
في المقابل، فإنّ إعلان الجولان، ومجمل الخطوات الأمريكية الفاشلة تجاه أستانا، مترافقة مع انكفائها الاضطراري، خلق مساحات أوسع لتحقيق خطوات جدية تجاه الحل السياسي، أي: تجاه تنفيذ القرار 2254، وعبر المدخل الدستوري بالذات، وعض الأصابع الذي رافق الركود الذي نتحدث عنه، بات في أسابيعه الأخيرة، ومساحات المناورة التي كان يلعب ضمنها المتشددون باتت أضيق من أي وقت مضى...
المتشددون داخل النظام لم يعودوا قادرين على تغطية فسادهم ونهبهم وراء لواء المعركة، وبعد تشديد العقوبات بات فسادهم مفضوحاً بشكل أكبر أمام السوريين من جهة، وأمام حلفاء سورية من جهة ثانية. وعلى الضفة المقابلة فإنّ «المعارضة الطارئة» التي جرى تفصيلها على مقاس النموذج العراقي، باتت عارية أمام السوريين وأمام المجتمع الدولي نفسه، فكيف يمكن لها أن تستمر في وصف الأمريكان بأنهم «حليف»، أو حتى بأنهم «وسيط» في حل الأزمة السورية، وهم الذين يخرقون علناً ليس القرار 2254 فحسب، بل والسيادة السورية بأسرها، وبأكثر أشكالها مباشرة وبساطة، سيادة سورية والشعب السوري على أرض محتلة منذ 1967، ومحتلة بالذات من الكيان الصهيوني.
ضمن هذه الإحداثيات، بات من الضروري لعب الأوراق الأساسية والاحتياطية؛ أي: إنّ المطلوب من هيئة التفاوض اليوم أن تتحول إلى احتكار أمريكي- خليجي معادٍ لأستانا وظيفته تعطيل أية إمكانية لإحداث اختراق في جدار الأزمة بالمعنى السياسي مما يفتح الباب شكلياً لإنهاء القرار 2254 نفسه. ولكي يجري ذلك لا بدَّ أن يجري تقديم بديل وهمي بالتوازي، عبر حوارات شكلية وتنازلات شكلية تحافظ على مواقع الغرب وركائزه ضمن البنية السورية، تلك الركائز التي عمادها قوى النهب والفساد الكبير.
بالمحصلة، يمكن القول: إنّ انفراجاً في المسار السياسي لتنفيذ 2254 بات قريباً، لأنّ كل محاولات التصعيد والتفجير والتخريب والإحراق الأمريكية يجري تطويقها وخنقها، ولذا بات من الضروري البحث عن مخرج التفافي يعيق الوصول إلى ذلك الانفراج، الذي وبمجرد أن يبدأ فإنّ حالة الركود الماضية، وحالات الركود التي سبقتها، ستتحول إلى ماضٍ بشكل كامل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 909