أنظمة «دول العالم الثالث» بين نارين
تشترك أنظمة الدول الطرفية الرأسمالية المسمّاة «العالم الثالث»، بمشتركات كثيرة بفترتي السكون والنشاط الجماهيري الأخير: طبيعة هذه الأنظمة، والأزمات التي ولّدتها، وليس انتهاءً بمنطق وآلية التعاطي مع الحركات الشعبية التي انطلقت قبل نحو عِقدٍ من الزمن... مستفيدة من دروس بعضها الآخر لمواجهة تحديات لن تُحل سوى بتغيير بنية هذه الأنظمة نفسها.
إن هذه الأشكال المختلفة جغرافياً وزمانياً، والمتشابهة في بنيتها ومضمونها، تتلاقى بكونها تكونت في مرحلة الاستعمار الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، من أقصى الغرب لأقصى الشرق، مروراً بإفريقيا والمنطقة العربية، وبصفات عامة مشتركة، منها: ارتباط بالمنظومة الغربية، اقتصادات ضعيفة، فساد عالٍ، قبضة حديدة في مواجهة مستحقات المجتمع. وهذه المشتركات تنطبق عليها جميعها، حتى من بدأ منها بعناوين «اشتراكية» على أيدي البرجوازيات الصغيرة التي استكملت تطورها الطبيعي، فهي حين تحكم تتحول إلى شريحة ضمن طبقة رأس المال، لتسود العناوين «الليبرالية» الصريحة.
المشاكل قديمة
لم تستطع هذه الأنظمة ببُناها تلك، أن تحلّ أقدم المشاكل وأعمّها، أما الإنجازات و«البحبوحة» الاقتصادية المؤقتة، فهي بفعل قوة عطالة الحراك الاجتماعي الذي بدأ يتراجع في الخمسينيات، ونتيجة انتعاش السوق الرأسمالية عالمياً بعد دمار الحرب، وتوزيعها الحصص على وكلائها. إلّا أن المشاكل لم تُحل، بل ازدادت تدريجياً وتعاظمت فور بدء اتخاذ الأنظمة المنحى «الليبرالي» المباشر والمشوّه، حيث كان المستوى المعيشي يسير بانخفاض على طول الخط، بآليات قمع تمنع أي نشاط شعبي أو سياسيّ، ليزيد مستوى الاحتقان وصولاً لانفجارات الأزمات الاجتماعية التي بدأت قبل حوالي عشر سنوات.
دروس للاستفادة
في الإطار العام فإن هذه الانفجارات حلّت بأوقاتٍ متقاربةٍ، وكان للمنطقة العربية الوزن الأكبر بها، نظراً لعدة عوامل أبرزها اقتصادية- اجتماعية- سياسية تحدد التوقيت ودرجة الحرارة، ولسنا في معرض شرحها جميعاً الآن. لكن إن اقتربنا في النظر أكثر على هذا المقطع ذاته نرى تتالي هذه الانفجارات بين بلدٍ وآخر، بدءاً من تونس في 2010، لتتشارك أنظمة هذه البلدان بصفات وسمات مشتركة أيضاً في منطق التعاطي مع تلك الانفجارات، وصولاً إلى ملامح توحي بأن من جاءته الانفجارات متأخرة قد تعلّم قليلاً من دروس من سبقه، كالسودان والجزائر اليوم.
السمات العامة
من هذه السمات العامة: كان لإنكار التحركات الشعبية ومطالبها الضوء الألمع، فلم تعترف حكومة منهم في البدء بوجود حالة احتقان موضوعية ومطالب محقّة، منتقلين إلى السمة الثانية: والتي تصف هذه الأحداث بالـ «مؤامرات» جملةً وتفصيلاً، معتمدين بذلك بناء على توقعاتهم أنه بمقدرتهم ضبط هذه الاحتجاجات وتأريضها بالأشكال التقليدية من إنكار ورفض وقمع، وبالمختصر: الترهيب. ليجري عكس ذلك: وضعُ زيتٍ على النار، ولتنتشر الاحتجاجات أكثر وتتعقد الصورة. وبغياب قوى سياسية وطنية قادرة على قيادة هذه التحركات نتيجة القمع السياسي طيلة العقود الماضية، شكّل هذا التوتر أرضية خصبة لبدء التدخلات الخارجية الغربية، والتي تعتبر السمة الثالثة في أزمات المنطقة. فالغرب بمشروعه للفوضى، ترقب الاستفادة من مركّب الاحتقان الاجتماعي، والقمع.. ليدعم مشاريع التسليح والاقتتال الداخلي، وصولاً إلى العمل المكثف على التنظيمات الإرهابية، الأداة الأساسية في مشروع الفوضى.
الأزمة السورية درس قاس
لم تستطع بنى هذه الأنظمة أن تتأقلم مع الواقع الجديد، فلم يكن بمقدورها ردع الحركة الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى لم تدرك بما يكفي عمق الأزمة الرأسمالية التي تعصف بالغرب، والتي تدفعه للالتزام تام بفكرة الفوضى والتدمير... حتى لو وصل الأمر لأقرب الأنظمة الحليفة.
يبدو أن حدّة الأزمة السورية، كانت مفصلاً... فبدأت الأنظمة بالتفكّر والتفكير: «ما متنا ولكن شفنا مين مات».
وأصبحت الأنظمة من بعدها أكثر مرونة لتقديم تنازلات في وجه الاحتقان الاجتماعي، وأكثر خوفاً من بوابات الدخول الغربي التي لم تعد تعرف حليفاً أو تفاوضاً في ظل عمق أزمتها.
تقف هذه الانظمة في لحظة صعبة، فهي مركبّة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً على أساس أن المجتمع لا حول له ولا قوّة، فأي تنازل للمجتمعات، قد يفرط عقد هذه الأنظمة وتحالفات نخبها. وهي مركبة على علاقة وطيدة تبعية مع الغرب، والغرب وتحديداً مركزه الأمريكي لم يعد يريد حتى أتباعاً... بل يريد عنفاً وفوضى فقط.
على هذا الأساس فإن هذه الأنظمة جميعاً عرضة للانقسام العميق، بين المتشددين الذي سيخسرون كل شيء إذا ما تنازلوا للمجتمع، والمستعدين للمقامرة بالذهاب إلى الفوضى عوضاً عن العودة للوراء. وبين قوى أخرى قد تتعلم درساً من نتائج التشدد وما تستدعيه من الفوضى التي شهدتها حالات مثل: سورية...
الجزائر اليوم قد تكون خير مثال على تعلّم الدروس، وقد نستطيع القول: إنها حتى الآن تسير في درب آمن، فالاحتقان الاجتماعي أعقبه تنازل الأنظمة وعودتها خطوات للوراء، والمجتمعات تعلّمت أيضاً أن العنف ملعب خطير ومقلب ضد الحراك الاجتماعي، يساعد الجزائريين في ذلك أن عدو بلادهم وبلادنا وعدو الشعوب الفعلي، أضعف وأقل قدرة على الدخول في ظل تيار تغيّر ميزان القوى الدولي الذي يُضعف قوى الفوضى العالمية يوماً بعد آخر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 906