افتتاحية قاسيون 904: دلالات التأرجح الأمريكي ومآلاته

افتتاحية قاسيون 904: دلالات التأرجح الأمريكي ومآلاته

انبعث جيمس جيفري من رقاده الذي استمر قرابة ثلاثة أشهر: منذ إعلان ترامب انسحاب قواته من سورية وحتى مطلع الأسبوع الفائت. انبعث مكرراً طرح «أهدافه» نفسها التي طرحها منذ تعيينه، ولكن بعد أن أجرى عليها تنزيلات مجزية وتعديلات اضطرارية فرضها كساد البضاعة الأمريكية عامة، وبضاعته خاصة.

ننسب الأهداف له، وليس لواشنطن، لأنه بات تنجيماً وضرب مندل القول إن لواشنطن موقفاً ما موحداً يقوله فلان من مسؤوليها، أياً يكن ذلك الموقف، ليس من المسألة السورية وحدها، بل ومن أية مسألة أخرى دولية كانت أم داخلية. ومما لا شك فيه أنّ عدم وجود موقف موحد يبلغ واحدة من ذراه القصوى في المسألة السورية خصوصاً لما تتميز به من دور مفتاحي ضمن مجمل الصراع الدولي، فبين بقاء وانسحاب، بين انسحاب سريع وكامل، وآخر جزئي ومنظم، بين بقاء 200 وبقاء 400، بين تحالف لا يتزعزع مع قسم من الأكراد السوريين، وبين إدارة الظهر لهم ومحاولة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه مع تركيا، ومن القول بأن أستانا انتهى دورها إلى الخضوع لواقع استمرارها ونجاحها عبر الصمت حيالها المترافق مع استمرار محاولات رمي الشقاق بين ثلاثيها...

وإنْ كان من باب التنجيم البحث عن ماهية موقف موحد لواشنطن، فذلك بالضبط لأنه غير موجود، بل إنّ العكس تماماً هو واقع الأمور؛ انقسامٌ بات يعبر بوضوح، بعمقه وامتداده، عن حجم الأزمة الشاملة التي تعيشها الولايات المتحدة؛ ليس كدولة وكمؤسسات فحسب، بل كمركز ومُسيّر لنظام علاقات دولي قائم على الأحادية القطبية، المبنية بدورها على سيادة الدولار وسيادة التبادل اللامتكافئ.

إنّ من بين دلالات التخبط الأمريكي في سورية ثلاث بارزة:

الأولى: هذا التخبط هو تعبير عن انقسام حول سؤال وجود ومستقبل الولايات المتحدة والنظام الدولي الأحادي القطبية، بين من يُصر على المجازفة في إحراق كافة المراكب لعل الحقائق العنيدة تلين، وبين تيار يسعى لتراجع منتظم من شأنه تقليل الخسائر والتكيف مع التوازن الدولي الجديد.

الثانية: هي أنّ الأمريكي، فاشياً كان أم «واقعياً»، لم تعد له كلمة في رسم الخطط والتصورات المستقبلية في سورية، وبات دوره مقتصراً على محاولة عرقلة مسار أستانا ومسار القرار 2254 بإحداثياته المختلفة، وذلك عبر سيلٍ من الخطط والتصريحات والسياسات، ربما أكثرها طرافة وبعداً عن الواقع ما يجري طرحه حول شمال شرق سورية.

الثالثة: التخبط الذي بات يفقأ الأعين بما يخص السياسات الخارجية والانقسام حولها، لم يلبث أن انتقل إلى صراع حول السياسات الداخلية أيضاً وصولاً لإعلان حالة الطوارئ ضد «المهاجرين عبر المكسيك»، والذي قيل فيه عن «أخطار الاشتراكية» أضعاف ما قيل فيه عن خطر المهاجرين!

إنّ مآل التأرجح الأمريكي لن يكون إلا تراجعاً بعد تراجع، ومع كهولة الإمبراطورية الأقصر عمراً في التاريخ وضعف مرونتها، فإنّ التأرجح الذي كان فيما مضى توزيعاً للأدوار ضمن انضباطٍ صارمٍ، من شأنه اليوم أمام أية سقطة صغيرة أن يسبب مخاطر وكسوراً غير قابلة للجبر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
904
آخر تعديل على الأحد, 10 آذار/مارس 2019 19:17