بقاء 200 يعني الانسحاب الفوري لـ 1800!
أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز يوم الخميس الفائت، 21 شباط، أنه «ستبقى مجموعة صغيرة لحفظ السلام من نحو 200 في سورية لفترة من الوقت».
لم يستطع حتى أكثر مناصري أمريكا ضمن الخريطة السورية والإقليمية، «تفاؤلاً بعظمتها»، قراءة هذا الإعلان على أنه تراجع عن القرار الأمريكي بالانسحاب من سورية، لكنهم مع ذلك تنسموا منه رائحة استمرار مؤقت لأدوارهم، وهم محقون بذلك بطريقة ما؛ إذ إنّ من المؤكد أن دورهم لن يزول نهائياً قبل عدة أشهر...
إنّ فهم إعلان البيت الأبيض، بعيداً عن الرغبات، ونقصد رغبات محبي الأمريكان، ورغباتنا بأسرع زوال لتأثيرهم من منطقتنا؛ فهماً على أساس الوقائع ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الانقسام الأمريكي وأسبابه ومدى عمقه...
الانقسام الأمريكي
الانقسام الأمريكي العميق الذي يظهر على السطح أنه انقسام بين أنصار ترامب من جهة، وبين معارضيه من جهة ثانية، وبطريقة أخرى: بين إدارة ترامب من جهة، وبين المؤسسة الحاكمة منذ عقود طويلة، بمؤسساتها ووزاراتها، وبديمقراطييها وجمهورييها، من جهة أخرى، هذا الانقسام الظاهر على السطح هو تعبير عن عمق الأزمة الوجودية التي تعيشها الولايات المتحدة، التي جرى توليفها بشكل عميق خلال ثلاثة عقود على الوجود كقطب واحد ضمن عالم أحادي القطب يحكمه الدولار، حتى باتت كل الميكانيزمات الداخلية في أميركا مصمّمة على أساس شكل التوازن هذا، وعلى قاعدة حكم الدولار.
أمام الاختلال العميق في التوازن الدولي القديم، وبداية تهديد قاعدته المالية- الاقتصادية، بالتوازي مع ارتفاع مستوى الخطورة المحيقة بقواعده السياسية والعسكرية والثقافية، فإنّ الخلل انتقل مباشرة لتلك الآليات الداخلية التي لم تعد نافعة للعمل ضمن الواقع الجديد.
وأمام هذا الخلل، هنالك رؤيتان إستراتيجيتان، الأولى: تسعى لتغيير العالم ليعود إلى الوراء متكيفاً مع الميكانيزمات الداخلية لأمريكا نفسها: هذا تيار المؤسسة الحاكمة: التيار الفاشي. والرؤية الثانية: تسعى لتغيير ميكانيزمات أمريكا الداخلية للتّكيف مع العالم الجديد، هذا تيار ترامب، الذي يضع نصب عينيه محاربة «الخطر الاشتراكي» في المحيط القريب، وفي الداخل.
محصلة الانقسام
حتى الآن، فإنّ محصلة الانقسام والصراع الجاري بين التيارين، بالتوازي مع درجة التراجع الذي وصلت إليه أمريكا عالمياً، هي: أنّ الولايات المتحدة انتقلت كلياً من موقع الفاعل وصانع الأحداث، إلى موقع «الممانع» لها... وهذا الموقع نفسه لا يمكن أن يستمر طويلاً باستمرار التراجع.
بالملموس، فإنّ أقصى ما تستطيع فعله الولايات المتحدة اليوم في سورية، هو تأخير حل الأزمة، وتأخير تنفيذ القرار 2254، وليس أكثر من ذلك ولو بسنت واحد!
منذ فشل ما سمي المجموعة المصغرة بتحقيق أي شيء على الأرض، وعلى رأس القائمة، فشل المجموعة في تفريق شمل أستانا، فإنّ كل خطة أو مقاربة تقدمها الولايات المتحدة بما يخص سورية ليست حتى مسودة لمشروع قد يتم التعديل عليها فتصبح صالحة للتنفيذ... يكفي أن نعود بالذاكرة بضعة شهور إلى الخطط والمشاريع الكبرى التي قدمها المهرج الأمريكي جيمس جيفري، وطاف بها العالم وصدع رؤوسنا بشكل يومي على مدى أشهر بما أسماه «الهزيمة الدائمة» لداعش وما إلى هنالك، ثم ما لبث أن اختفى كلياً كأنه لم يكن أصلاً بعد إعلان ترامب عن الانسحاب.
وماذا بعد؟
الواضح تماماً الآن، ورغم حدة الانقسام وعمقه، أنّ تيار ترامب يتجه أكثر فأكثر نحو إحكام قبضته بشكل مطلق وديكتاتوري على الدفة الأمريكية، يتضح ذلك من إعلان حالة الطوارئ وبؤس معارضيه الذي يعترفون هم أنفسهم أن السنتين المتبقيتين من ولايته ستكونان تحت حكم مطلق منه، وأنّ كل ما يفعلونه الآن عبر الأبواب السياسية والقانونية ضده، لا يستهدف تغيير سياساته الحالية، بل هو تحضير للانتخابات الرئاسية القادمة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ ترامب سيتمكن بسهولة من لعب دور الحاكم المطلق، بل سيبقى مضطراً لتقديم تنازل جزئي هنا، وتنازل جزئي أو شكلي هناك.
نعتقد أنه في هذا السياق بالذات، جاء إعلان البيت الأبيض عن إبقاء 200 من أصل 2000 في سورية كقوة «لحفظ السلام»... وذلك لامتصاص الهجوم الحاد مؤقتاً وشكلياً عبر هجوم معاكس: فتنفيذ «إرادة معارضي ترامب عبر إبقاء جزء ولو كان 200» يعني السحب السريع لـ1800... أي: أنّ الإعلان عن إبقاء 200 قد وضع جانباً مسألة انسحاب 1800 بوصفه أمراً منتهياً، لتضيق حدود المواجهة إلى الكلام عن 200... بكلام آخر: فإنّ الهجوم على قرار الانسحاب يجري امتصاصه عبر تنفيذ الانسحاب على مراحل...
ينبغي الانتباه أيضاً أن الانسحاب من سورية ليس خطة متكاملة بذاتها، بل بات من المحتمل احتمالاً عالياً أن هذا الانسحاب سيمتد نحو انسحاب كامل من العراق أيضاً.