الترويكا: تقدم مستمر في وجه الأمريكي!
شكلت المواقف والتصريحات التركية الأخيرة في قمة سوتشي، بعد كل الجمود السابق، تقدماً جديداً لترويكا آستانا وخسارة جديدة للأمريكي، وإشارة ببدء العملية السياسية السورية ضمن آجال قريبة.
فمع تسارع وتيرة تراجع الولايات المتحدة دولياً على كافة الصعد وبمختلف الملفات، والمترافق مع تثبيت الميزان الدولي الجديد بمنظومته وأدواته وسياساته الجديدة بما ينعكس على مجرى النشاط السياسي العام بجميع البلدان، وإحداها تركيا، باتت تتوضح أكثر، وبشكل علني، حالة الانقسام الموجودة في الإدارة التركية ذاتها عبر مواقفها بين طرفين، الأول: يسعى للحفاظ على علاقته التبعية مع الغرب وفقاً لمصالحه. والثاني: يعي بشكل أو بآخر مستوى تأزم الولايات المتحدة ومدى خطر استمرار التحالف معها عليه وعلى المصلحة التركية عموماً، لينعكس هذا الأمر على المواقف التركية المتناقضة فيما يخص الأزمة السورية والحل السياسي، وتأثيرات هذا التناقض على الملف السوري باعتبارها طرفاً ضامناً ضمن ترويكا آستانا وثم سوتشي.
من التبعية إلى الاستقلال
تاريخياً، وتحديداً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت تركيا تعمل تحت الوصاية الغربية الأمريكية، ولمصلحة تلك الوصاية، بدءاً من ضمّها إلى حلف شمال الأطلسي آنذاك لتكون حليفاً أساسياً وعلى الخط الأول الجيوسياسي بالمواجهة مع الشرق، وليس انتهاءً بدورها فيما يخصّ الأزمة السورية منذ اندلاعها وحتى فترة قريبة خلت، حيث بدأت تتمظهر حالة الانقسام الجارية في إدارتها بين الطرفين السابقين لتبدأ روسيا بالشروع بتمتين علاقتها مع تركيا استناداً للطرف المتوافق معها إستراتيجياً، أولاً: عبر إطار آستانا مما عبّد الطريق للعمل المشترك والمباشر بين البلدين بعكس المصلحة الغربية، ليبدأ الأمريكي منذ ذاك الحين باللعب على التناقضات الموجودة داخل تركيا بغاية عرقلة نواة هذه القوة الإقليمية- الدولية الناشئة ومحاولة إفشالها من جهة، ومن جهة أخرى لإعاقة مجمل الانعطاف التركي نحو الشرق، حيث جرت محاولة انقلاب شكلت خطراً حقيقياً في حينه على الأمن التركي وجعلت تركيا على حافة اندلاع أزمة داخلية تم تجاوزها، وثم تطبيق عقوبات اقتصادية مباشرة أثرت سلباً على الاقتصاد والليرة التركية، وأخيراً، محاولة توريط الأتراك من قبل الأمريكيين بإذكائهم لنار الخلافات التركية- الكردية مما وضعها بمأزق يتناقض مع وجودها كطرف ضامن بعد دخولها الأراضي السورية بالشكل المباشر غير الشرعي، وبين هذا وذاك جملة من المواقف والمحاولات الأخرى التي وكما تبين في قمة الترويكا الأخيرة في سوتشي أنها لم تنتج شيئاً سوى تحريض الطرف التركي الذي يرى مستقبله دون الأمريكيين لتعزيز موقعه وقوته بوجه الطرف الآخر، حيث تحوّلت المواقف التركية لتصبح أكثر تجاوباً مما سبق فيما يخص حل الأزمة السورية، وتحديداً مسألة إدلب التي كانت عالقة لفترة ليست بقصيرة وبعرقلة من تركيا ذاتها بسبب الضغط الأمريكي.
التحوّل التركي في قمة سوتشي الأخيرة
اللافت في اجتماع الترويكا هو التصريحات والمبادرات التركية الجديدة التي صدرت عن أردوغان فيما يخص العلاقة الروسية- التركية أو العلاقة التركية- الإيرانية أو الترويكا ذاتها وصولاً إلى تذليل عقبة مسألة إدلب، حيث أعلن «استعداده للقيام بعمليات مشتركة مع إيران وروسيا في إدلب» بشكلها الشرعي ضمن إطار آستانا، وبالتوافق مع ما تم الحديث عنه سابقاً من الاستناد إلى اتفاقية أضنة، ووضعها على الطاولة للتفعيل أو إعادة النظر... وبما يعنيه بالمحصلة من استعداده لإنهاء المسألة هناك بما يخدم تسيير العملية السياسية وانطلاقها، ومن جهة أخرى الرسالة المباشرة للأمريكيين حيث قال أردوغان إنه «رغم كل الاستفزازات الهادفة لضرب علاقتنا» قاصداً الترويكا «لكن التعاون مستمر» واصفاً مفاوضات آستانا بأنها «أنجح نموذج لوقف إراقة الدماء»... لكن لا بد من التأكيد هنا بأن هذه الانعطافة لم تأتِ عن حُسن نية ذاتية، بل هي نتاج موضوعي وطبيعي يعني أولاً بالنسبة للأتراك، مصلحة الأتراك أنفسهم.
من المصلحة التركية وصولاً لتسريع الانسحاب الأمريكي
إنّ هذا التحول الدراماتيكي بالمقارنة مع مجمل السلوك التركي السابق له، يستدعي التوقف عنده قليلاً، حيث يحمل تبعات لا بد من الإضاءة عليها، فأولاً: بالنسبة للتباينات الموجود داخل تركيا يعني خطوة جديدة من قبل ذاك الطرف الذي يسعى لخلع العباءة الأمريكية عنه، ومن ثم ثانياً: بمقابل الحدّ من التدخل الأمريكي بإملائه وضغطه يفتح الباب أمام المزيد من تعميق العلاقات التركية- الروسية- الإيرانية وتقليص إمكانية توتير الوضع في الداخل التركي، والذي يعني بدوره ثالثاً: نجاحاً آخر جديداً لهذه المنظومة الإقليمية المتمثلة بترويكا آستانا بما تحمله من آليات حلول لمجمل الأزمات العالقة في المنطقة، بمقابل صانع المتفجرات الأمريكي، والذي يعني أنه خسارة جديدة أخرى للأمريكي، وهذا بالمحصلة يؤدي إلى النتيجة الأهم، وهي: تسريع عملية انسحاب الأمريكي من شمال شرقي سورية ومن المنطقة عموماً لما يمثله تحالف الترويكا من تضييق وتهديد أكثر على وجوده هنا بعد كل انتصار، وصولاً في نهاية المطاف إلى خروج القوات التركية نفسها عبر هذا التفاهم الجديد ضمن الترويكا وحلّ عقدة الشمال الشرقي في القريب العاجل بدخول الجيش السوري، ونزع ورقة توتير التناقض التركي- الكردي.
ملعب الأمريكي هو الوقت
بالمعنى الإستراتيجي، عِبر تطور مجمل النشاط السياسي الدولي، وبشكل موضوعي، فإن الانعطافة التركية نحو الشرق بشكلها الكامل سوف تجري إن عاجلاً أم آجلاً، إلا أن بين هذين الزمانين ملعب الأمريكي وفرصته بمحاولة افتعال أزمة بالداخل التركي بغاية العرقلة، وهو ما يحاول على الدوام فعله، رغم التراجع ضمن معادلة خلق أكبر قدر من الفوضى، ليصبح ومن الضروري أكثر من أي وقت مضى ورغم أزمة النظام التركي عموماً، بأن تستكمل هذه الانعطافة بأسرع شكل ممكن حفاظاً على تركيا من الانفجار، وبالتالي حفاظاً على أمن المنطقة ككل من أية انعكاسات أو انتكاسات، ومنها مجرى الحل السياسي السوري.