هل يمكن الجمع بين السعودية وتركيا؟
لم يعد خافياً مستوى الصراع القائم بين تركيا والسعودية، وليست قضية خاشقجي سوى مفردة واحدة من عدد كبير من مفردات هذا الصراع.
التفسير الأولي والبسيط لأسباب الصراع القائم، يمكن أن يقف عند القول: إنّ دولتين إقليميتين تتنازعان على مساحات النفوذ والتأثير في منطقة تضج بالمشكلات والأزمات، وهذا لا شك يعكس جانباً من الحقيقة، ولكن ليس الحقيقة كلها...
تشترك الدولتان- المحوران، في انتمائهما التاريخي للمعسكر الغربي من موقع التابع النشيط، أو لنقل التابع الذي يتمتع نتيجة لثقل وزنه الطبيعي بشيء ما من الاستقلالية، وهنا لا بد من التمييز بين درجة التبعية في كل منهما؛ حيث التبعية «سلسة» في السعودية كنتيجة مباشرة لاستدامة التخلف الاقتصادي المعتمد بشكل شبه كامل على الريع النفطي المترافق مع حظر الحياة السياسية في المجتمع كلياً، بمقابل ذلك فإنّ تطويع تركيا كان يحتاج خلال القرن الماضي إلى انقلاب عسكري كل عشر سنوات تقريباً، أي: أنّ طبيعة السيطرة الغربية على تركيا كانت دائماً بحاجة لقدر أكبر من الإجراءات وللسيطرة على الجيش بشكل أساسي... هنالك درجة تطور اقتصادي أعلى في تركيا تسمح بدرجة استقلالية أعلى.
لماذا النزاع الآن في ذروته؟
خلال العقود الماضية كانت القوة الأمريكية هي الضابط الأساسي لطبيعة التنافس والصراع ومستواه بين التابعَين... ومع تراجع الأمريكي بدأت عمليات الانفلات؛ التراجع الأمريكي نفسه، دفع واشنطن للعمل على تفجير تركيا من الداخل (المعلم الأبرز هو محاولة الانقلاب على أردوغان) وعلى تفجير السعودية (المعلم الأبرز هو دفعها نحو المستنقع اليمني، ونحو الأزمة المستعصية مع قطر)، وهذا الأمر أعطى زخماً أكبر للتيارات التي ترى في الاستقلال عن الأمريكي الطريق الوحيد للبقاء في كلتا الدولتين، الأمر الذي أحدث صداماً متصالباً بين المتطلعين للاستقلال عن الأمريكي في كل من الطرفين مع المصرين على الاستمرار ضمن التبعية في الطرف الآخر.
أستانا
العامل الإضافي الذي يلعب الدور الأكثر حسماً في المسألة هو: وجود تركيا كدولة أساسية ضمن ثلاثي أستانا، بوصفها منظومة إقليمية- دولية جديدة تتعزز وتتطور بشكل مستمر، وهو الأمر الذي جعلها نقطة تقاطع نيران حامية بين الأمريكي وجميع توابعه، وجميع رافضي الاستقرار في المنطقة والعالم.
يضاف إلى ذلك أنه خلال العقود الماضية، كان لوجود دور وازن نسبياً لمصر، إسهام ملحوظ في إحداث شيء من توازن القوة بين الدولتين، ولكن منذ سنوات لم يعد لمصر سوى دور رمزي في المسائل المختلفة، كما أنها تصطف ضمن هذا النزاع بشكل واضح إلى جانب (ووراء) السعودية في مواجهة تركيا، وهذا بدوره ساهم بتعميق الصراع.
بالتوازي، ومع تراجع الدور المصري، فإنّ دور سورية المفتاحي ضمن المنطقة كان أيضاً عاملاً مهماً في موازنة الاستقطابات الإقليمية، ومع تعمق الأزمة السورية، لم يتراجع هذا الدور بشكل كبير فحسب، بل وتحول في اتجاهات معينة نحو دور سالب؛ أي: أنّ سورية نفسها باتت محل صراع وساحة صراع بين هذه القوى الإقليمية.
ملف شمال شرق سورية
في ظِلّ هذه العوامل كلها، يبدو الاشتباك الآن بين السعودية وتركيا في ذروته، ويحتل ملف شمال شرق سورية مطرح الصراع الأساسي في هذه الفترة، ونرى طرحين أساسيين على الواجهة:
الطرح التركي حول المنطقة الآمنة أو الأمنية المشتق لفظياً من كلام ترامب، والمستند فعلياً إلى مقاربة موسكو حول العودة إلى اتفاق أضنة 1998... ولهذا الطرح تفسيران مختلفان ضمن تركيا وفقاً للتيارين الأساسيين الموجودين فيها:
الأول: التيار ذو درجة الاستقلالية الأعلى عن الأمريكي يرى في اتفاق أضنة جسراً لمنع الآخرين (الأمريكي والخليجي خصوصاً) من الاقتراب، ولتسوية الأمور مع الدولة السورية على المدى المتوسط بما يضمن المصالح التركية في مسألة الحدود، ويحفظ لتركيا وزناً أعلى من الخليجي في سورية في المراحل اللاحقة.
التيار الثاني التابع لواشنطن: يحاول التماشي شكلياً مع مقاربة موسكو حول أضنة ليس لتطبيق الاتفاق، أو إعادة النظر فيه على أساس من القانون الدولي واحترام سيادة سورية، بل كمدخل نحو إبقاء الأوضاع متوترة في سورية وفي تركيا تالياً، ورفع درجة توترها بما يسمح بتحقيق ما أراد الانقلاب تحقيقه ولم ينجح، أي: استعادة زمام السلطة في تركيا بشكل كامل ليد الفاشية، والقضاء على كامل التوجه التركي الحالي نحو استقلال أعلى عن الأمريكي، وخاصة عبر منظومة أستانا.
وصفة الفوضى
الطرح الخليجي للمسألة، لا يهاجم العودة لاتفاق أضنة بشكل رسمي، لكنه يهاجمه عبر الإعلام وبطرق مختلفة، وفي الوقت نفسه يجري الترويج بأشكال رسمية وغير رسمية إلى «حل» يقوم على تذرير منطقة شمال الفرات بين (قسد) و(بيشمركة) و(قوات من عشائر عربية)! ومع هؤلاء كلهم وجود رمزي للأمريكان، إضافة إلى الوجود الحكومي الرسمي المحصور حالياً في مركز القامشلي...
على التوازي مع ذلك، هنالك أخذ وشد فيما يتعلق بمسألة عودة سورية للجامعة العربية، وإعادة تطبيع العلاقات معها، وهذه المسألة أيضاً تتنازعها التيارات المختلفة، ويجري العمل عليها ضمن حسابات محددة:
فمن جهة، بات واضحاً بالمعنى الموضوعي أنّ سورية ستعود في آجال غير بعيدة للجامعة العربية، ولذا فإنّ المبادرة في هذا الاتجاه وإعطاء الإيحاءات بأنّ السير قد بدأ بهذا الإطار، وهو قد بدأ فعلاً، يأتي من جهة تجاوباً مع الظرف الموضوعي، ومن جهة ثانية تجاوباً، ولو شكلياً حتى الآن، مع الدفع الروسي في هذا الاتجاه...
من الجهة الثانية، فإنّ محاولات توظيف هذه العودة يجري العمل عليها؛ أي: أن تجري العودة بصفقة ما (ليس لإزاحة الإيراني كما يشاع)، بل أهم من ذلك من وجهة النظر السعودية، هو تقليل وزن التركي، بل وحتى الروسي إنْ أمكن، لأنّ السعودية تعلم أنّ أي تأثير محتمل لها ضمن الوضع السوري لن يكون على حساب الإيراني، بل من الممكن أن يكون على حساب التركي...
هل يمكن التوفيق بين هذه المتناقضات؟
نعم، يمكن عبر مدخل وحيد هو احترام سيادة الشعب السوري على أرضه: الجيش السوري هو الوحيد المخول في الوجود على الحدود السورية، كل المكونات السياسية السورية يجب أن تشترك في عملية الحل السياسي بما يصون وحدة سورية، ويسمح لها بالقفز من حقل الألغام الذي تقف فيه... وهذا وحده سيسمح باستقرار للمنطقة بأسرها، وسيسمح تالياً بتحريك العلاقات الطبيعية اقتصادياً وسياسياً وسكانياً في المنطقة، وبتقليل وطأة الابتزاز الأمريكي تمهيداً لإنهائه...
بكلام آخر، إنّ التفاهم مع ثلاثي أستانا، بوصفه نواة لمنظومة دولية جديدة، هو الباب الوحيد نحو استقرار المنطقة واستقرار دولها، وأي تعويل على الأمريكي لن يجلب سوى المزيد من الخسائر لكل الأطراف...