«مجنون يحكي»: أعراض انهيار شامل!
كانت قد مضت سنوات قليلة على انهيار الاتحاد السوفييتي عندما شخّص الشيوعيون السوريون، وفي مقدمتهم رفاقٌ كانوا نواة ما غدا لاحقاً تيار قاسيون، واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، ثم حزب الإرادة الشعبية؛ شخصوا أزمة عميقة وشاملة للرأسمالية وتنبؤوا بانفجار قريب لتلك الأزمة.
في تلك السنوات المرّة بالذات؛ السنوات التي أُحرقت فيها «مكتبات حمراء» على أيدي أصحابها التائبين الذين في معظم الحالات لم يقرأوا منها سوى النزر اليسير. في تلك السنوات التي شهدت جائحة «الديمقراطية الليبرالية» بوصفها نهاية التاريخ ومبلغ الأرب. في تلك السنوات التي غدا فيها جواز مرور «المثقف» هو أن يشتم «الحتميات والجمود العقائدي» وأن يتبنى «اللّايقين» و«العدمية»...وإلخ. في تلك السنوات بالذات، كان هنالك «مجانين» يقولون: ليس للرأسمالية مستقبل، و«الحضارة البشرية على مفترق طرق: فإما أن تمضي باتجاه الاشتراكية وإما أن تنحدر في بربريتها صوب الفناء»، وأكثر من ذلك فإنّ صنف «المجانين» هذا كان يفرط في جنونه، فيستحضر ماركس ليرد على نهاية التاريخ: كلّا، التاريخ لم ينته، لا لشيء سوى أنّه «لم يبدأ بعد»! فالبشر إذ يعيشون في مستنقع المجتمع الطبقي، فإنهم لمّا يضعوا أقدامهم بعد على بداية التاريخ؛ إنهم ما يزالون في ما قبل التاريخ البشري!
رفاقنا الذين كانوا يكرزون في الأرض في التسعينيات مبشرين بأزمة العدو الطبقي القادمة، بأزمة مصاصي دماء الشعوب، بأزمة أمريكا القادمة، وبقرب انفتاح الأفق أمام الكادحين، وبأنّ انطلاق حراك شعبي عالمي ومحلي لن يطول انتظاره، وبأنّ على الحزب أن يعود إلى الجماهير لكي يعود معها إلى الشارع... رفاقنا أولاء كانوا، ودون أدنى شك، مجانين!
انتسبت لحزب الإرادة عام 2008، وكان اسمه في ذلك الحين، الحزب الشيوعي السوري_ تيار قاسيون. كانت الأزمة المالية في أوجها، وكنت منتشياً بأنّ الأزمة بتفاصيلها العامة وحتى الجزئية، ثبتت ليس فقط صحة التشخيص الاقتصادي والسياسي للحزب الذي انتسبت إليه، بل وأهم من ذلك ثبتت حيوية وصحة مرجعيته الفكرية: الماركسية- اللينينية. أذكر جيداً جملة المحاضرات التي قدمها الحزب حول الأزمة وخاصة محاضرات الرفيق قدري جميل. في تلك الفترة، وكمنتسب جديد، بدأت أكرز في الأرض مبشراً بأزمة رأس المال، وأزمة أمريكا، وانفتاح الأفق أمام الشعوب المظلومة... وكم كانت الصدمة كبيرة! لم أكن أستوعب كيف يمكن للناس أن ترفض حقائق ناصعة إلى هذا الحد، كنت ممتلئاً بمعادلات الأزمة وقوانينها كمن اكتشف سراً مباحاً كان غائباً عنه فقط لأنّه لم يمنح عينيه بضع دقائق إضافية لاستيعاب ضوء تلك الحقيقة، وكنت أظن أنّ تخصيص بضع الدقائق تلك لأي إنسان سيكون كافياً لكي يرى ما رأيت... ولكن هيهات! لم يصفني أحدٌ محددٌ بأني مجنون، ولكن من فعلوا ذلك كانوا كثراً بحق... كان هذا عام 2008، قبل عشر سنوات فقط، وفي أوج الأزمة المالية، ولذا فإنّ رفاقنا من مبشري التسعينيات كانوا بلا أدنى شكٍ، ودونما ريب، مجانين فوق العادة...
مع مرور الوقت أصبح الجنون تسليتنا المفضلة. على سبيل الجنون، يمكن القول: إنّ ما يشهده العالم اليوم هو أعراض انهيار شامل_ سيستغرق سنوات معدودة فحسب_ للمنظومة الغربية؛ ليس فقط تلك التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية متمثلة بالناتو وصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات، بل وأيضاً المنظومة الغربية التي تشكلت قبل أكثر من خمسة قرون مع انطلاق رحلات البحث عن الذهب، منظومة الاستعمار بأطوارها الثلاثة «الكولنيالي وما بعد الكولنيالي والمعاصر المركب من سابقيه والمتطور عنهما» (هنالك مجانين سوبر فوق العادة يتحدثون عن دوريات عدة في التاريخ، دور لحركة الجماهير يمتد من 50 إلى 100 عام، تنهض فيه عقوداً ثم تخبو حركتها عقوداً أخرى، ودور أطول منه يصل حدود 500 عام، هو دور طبيعي يرتبط بحركة الأجرام ويحمل تأثيراته على المجتمعات البشرية. نحن من صنف المجانين حاف، لذا لن نقترب هنا من هذه الطروحات).
بالعودة إلى الجنون الحاف، الذي يمتلك بقية ارتباط بالمسميات الآنية للأشياء والوقائع، يمكننا التذكير ببعض الأمور التي جرت خلال السنوات القليلة الماضية: الاتفاق النووي الإيراني، وهو أول عملية كبيرة في ضرب التبادل اللامتكافئ، وبداية التحرر من معادلات النفط كمصدر وحيد للطاقة مسموحٍ به للدول النامية، بما يعني بداية ضرب مركزة الطاقة وتالياً احتكارها. اتفاق مينسك وإقصاء الولايات المتحدة، إنهاء داعش في سورية بشكل شبه كامل والنصرة على الطريق، الاستدارة التركية، بريكس، الأزمات الداخلية للناتو، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عزلة الولايات المتحدة في خروجها من الاتفاق النووي الإيراني حتى باتت «ملطشة» للأوروبيين الذين باتوا يلومونها على أخطائها ويحددون خطواتهم بغض النظر عنها، وبالضد منها، بل وربما يتحول انسحاب واشنطن من الاتفاق إلى مدخل لتنفيذ المشروع الأوراسي. كذلك عزلة الولايات المتحدة في مسألة نقل السفارة، والتي تعكس سقوطها كراعٍ لـ «عملية السلام»، وانفتاح الباب منذ 2006 على اتخاذ هذه «العملية» منحاها الطبيعي التحرري... اليوان الصيني وسيلة دفع قابلة للتبديل ذهباً مقابل مستوردات الصين من النفط بدلاً عن الدولار، اليورو وسيلة دفع محتملة للتعاملات الإيرانية الأوربية بديلاً عن الدولار...
على سبيل الجنون الحاف أيضاً، يمكن القول: إنّ بين أهم أعراض الانهيار الشامل للمنظومة الغربية، والأمريكية بالذات، انتهاء الأزمة السورية وتنفيذ القرار 2254 الذي بات تنفيذه مقدمة لعصر جديد لا يخص سورية وحدها بل والعالم بأسره...
كذلك هو أمر المجانين، يعملون ويجهزون العدة للعصر الجديد دائماً، ولا يهنأ لهم عيش قبل الوصول إليه... وبعيداً عن «الفكاهة»، وعن «الجنون»، الموضوعي وغير الموضوعي... فإنّ عالماً بهذا القدر من الجنون، لا يمكن التعامل معه إلا بجنون مقابل، جنون من نوع خاص...
بكل الأحوال: «مجنون يحكي وعاقل يقرأ»