سورية... ومآلات التأرجح التركي
ثمة قلق مشروع ينتاب الكثير من السوريين، على خلفية الدور التركي في المسألة السورية، فهذا الدور الذي أخذ في البداية شكل التدخل العسكري غير المباشر في سورية، عبر دعم الجماعات المسلحة من كل شاكلة ولون، وبمختلف الأشكال، عبوراً وتمويلاً وتدريباً ورعايةً، ليتطور هذا الدور فيما بعد إلى التدخل المباشر، في العديد من مناطق الشمال السوري، وآخرها احتلال عفرين، ليأخذ هذا التدخل بعداً إقليمياً يتعلق بالقضية الكردية...
وفي مسار آخر، تعتبر تركيا إحدى الدول الضامنة في مسار أستانا، وما نتج عنها من مناطق خفض التصعيد..
وبمتابعة تطور الموقف التركي، نجد أن تركيا حاولت منذ 2011 العمل ضمن دورها الوظيفي، المحدد غربياً خلال العقود الماضية.. فكان مطلبها الدائم بإقامة منطقة آمنة برعاية تركية، وهو ما لم تفلح به، بسبب الموقف الروسي الواضح والصريح من هذه المسألة، إلى أن وصل الخلاف بين الدولتين إلى مستوى الاحتكاك العسكري المباشر، وإسقاط الطائرة الروسية عام 2015، والتي انتهت إلى اعتذار تركي مُذل.
فتش عن التوازن
لا يمكن فهم مواقف وسلوك أية دولة في عالم اليوم، خارج ميزان القوى الدولي الجديد، الذي بات المحرك الأساس لاتجاه تطور كل الأحداث العالمية، ومواقف الدول كلها، وخصوصاً في الأزمة السورية.. فمن مفاعيل هذا التوازن كان التحول التركي، ومحاولات الخروج من دائرة التبعية المطلقة للمركز الرأسمالي الغربي.
كتبت قاسيون في تشرين الأول عام 2017:
«نعتقد أن الاستدارة التركية، تعود إلى عدة عوامل:
أولاً: دأبت الولايات المتحدة على التعامل مع حلفائها، كشركة استثمارية، يتوقف مستوى التعامل معها، على نسبة الريع، وإذا كانت فترة سيادة الهيمنة الأمريكية عالمياً تسمح، بمنح هوامش لـ «حلفائها» بالحركة ضمن مدى محدد، فإنه في ظروف التراجع الأمريكي بات هذا الهامش ضيقاً جداً، فالصراع مع القوى الدولية الصاعدة، بات يتطلب مركزية شديدة في القرار، لتوظيف القوى كلها لصالح المعركة مع الخصم الأساسي، مما دفع واشنطن إلى ابتزاز الكل، بما فيها دعم انقلاب عسكري ضد نظام حكم تابع، كنظام أردوغان، وبدرجة عالية من الوقاحة، تستفز حتى الموتى، فكيف بدولة ذات وزن جيوسياسي مثل تركيا، وفي ظل حكومة من نمط خاص، ترك لها في ظل ظرف سياسي محدد- مجالٌ واسعٌ للشغب على مستوى الإقليم، وتم تفويضها غربياً بأن تكون المركز الإقليمي لما يسمى بالإسلام المعتدل، بمعنى آخر، إن محاولة الانقلاب كانت بداية انتهاء الدور الوظيفي المرسوم لتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ويندرج في هذا السياق، دور العجرفة الأوربية تجاه تركيا، وإغلاق الأبواب أمامها للدخول إلى النادي الأوربي، خلال عشرات السنين، وبشكل مهين، ومع تكون فضاء جديد في الشرق من شنغهاي إلى البريكس وجدت تركيا نفسها أمام حقيقة تاريخية إما أن تبقى مستجدية للغرب، وتخرج من التاريخ، أو تحتل مكانها الطبيعي في الشرق المتكون مجدداً ببناه المختلفة.... بقي أن نقول في هذا الإطار: بأن تخلي المركز الرأسمالي الغربي، بشقيه الأوربي والأمريكي عن الدور الوظيفي السابق لتركيا، عندما تطلبت مصالح نخبة رأس المال العالمي الاستثمار في هذا الفضاء الجغرافي السياسي بطريقة أخرى، والاستغناء عن خدمات الحليف السابق، والتي أحدثت صدمة لدى النخبة السياسية التركية، ينبغي أن يكون درساً، لأولئك الذين يذهبون إلى الحج والناس راجعة».
ما يبدو شكلاً، أنه تزايدٌ للدور التركي في الأزمة، هو في واقع الحال تراجع إذا نظرنا إليه بمنظار التوازن الدولي الجديد، ومنطقه، وطبيعة القوى النافذة فيه، واستراتيجياتها، وبالملموس تم دفن محاولات المنطقة الآمنة، وتحولت تركيا من طرف حاضن_ لوجستياً على الأقل_ لكل الجماعات المسلحة، إلى طرف مفاوض، ومن مانع لأي تخفيض في مستوى التوتر على الأرض السورية، إلى أحد عرّابي مناطق خفض التصعيد، التي بدأت بطرد الجماعات المسلحة من حلب، وإعادتها إلى سلطة الدولة السورية، والأهم من طرف يعمل تحت الرعاية الأمريكية، إلى طرف دفعه واقع حال الامريكي المأزوم دفعاً، إلى مكان آخر.
من السذاجة القول، إن تركيا استكملت استدارتها، بقدر ما هي سذاجة القول: بأن تركيا هي تركيا نفسها التي كانت تعمل كشرطي أمريكي، بل هي في ظروف اليوم في مكان ما، تتأرجح بين هذا وذاك، وتبحث عن مكان لها، وهذا المكان في كل الأحوال لن يتجاوز في نهاية المطاف ما هو موضوعي، أي: دور تركي متكامل مع دور دول وشعوب المنطقة، أرادت السلطة التركية أم لم ترد.
ما ينبغي تثبيته في هذا السياق، أنه من السذاجة إيعاز التحول التركي إلى أخلاقيات أردوغان ونظام حكمه، فلا التخريب الممنهج، ودعم الإرهاب والصلف والرعونة التركية كانت مسألة أخلاقية، ولا الاستدارة الحالية مجرد صحوة ضمير، بل الأصل في الموضوع هو: تناقض المصالح أو توافقها، مع القوى الصاعدة، التي أثبتت بالملموس قدرتها على فعل ما كان يبدو مستحيلاً بالعين المجردة، ولجم تركيا واعادتها الى حجمها الطبيعي رغم الطموحات الخرقاء التي لم تغب عن ذهن قوى الاسلام السياسي الحاكمة.
ومن هنا، فإن قوى الحرب في الغرب لن تدّخر جهداً بالإقدام على أي عمل يمكن أن يمنع استكمال الاستدارة التركية، لاسيما وأن قوى هامة في جهاز الدولة والمجتمع التركي، ترتبط مع تلك القوى بشبكة مصالح أخطبوطية، مالية وأمنية وعسكرية..!