بين أوهايو والإليزيه ونصيحة من (قامشلو)
كفاح سعيد كفاح سعيد

بين أوهايو والإليزيه ونصيحة من (قامشلو)

بينما كان الأثير ينقل إلى العالم، من أوهايو آخر تصريحات دونالد ترامب، عن انسحاب قريب لعسكره من سورية، كانت شاشات التلفزة تعرض زيارة وفد فيدرالية الشمال إلى الإليزيه، وسارع البعض كالعادة إلى التعويل على الوعود الفرنسية، وهو يبلع ريقه من الصدمة التي خلفها الرئيس الأمريكي بتصريحه المفاجئ، لمَ لا؟... وإن كان الأمريكي يخذل حلفاءه، فها هي فرنسا أحد قلاع العالم الحر، الديمقراطي، «بتاع» حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب، ستملأ الفراغ وتنتصر للكرد..! وستلعن الأتراك، وكل أعداء الكرد، كابراً عن كابر!؟

 

ثوابت ووقائع
قبل قراءة الحدث ودلالاته، وتداعياته المفترضة، ثمة حقائق لابد من التذكير بها مجدداً، كونها نقاط الاستناد في أي موقف مسؤول يتعلق بالشمال السوري عموماً، والمسألة الكردية بشكل خاص من جهة، ومن جهة أخرى، حتى نتجنب جهل الجهلة، وسذاجة السذج، ونكسب تفهم من تبقى من ذوي الرأي السديد، والعقل الرشيد، اعتقاداً منا بحاجة العقلاء إلى بعضهم البعض طالما أن الجميع بات على حافة الهاوية، في «مشفى المجانين» السوري، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية، وحتى اصطفافاتهم السياسية ربما!
_ أولى هذه الحقائق، أنه ثمة مسألة كردية في سورية، ينبغي حلها في إطار عملية التغيير القادمة، والإقرار بالوجود الكردي المتأصل في هذه الجغرافيا، فلا هم غرباء، ولا هم لاجئون، ولا هم «إسرائيل ثانية»، كما يروج من قبل ضيقي الأفق من القوميين العرب، الرسميين منهم وغير الرسميين، وأن الخلاف أو الاتفاق مع الحركة القومية الكردية لا يلغي هذه الحقيقة الموضوعية.
_ إن المسألة الكردية في سورية، هي مسألة وطنية سورية، بمعنى لا يمكن حلها إلا في إطار حل وطني عام من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن إنجاز أي حل وطني حقيقي دون أن يكون حل هذه المسألة جزءاً منها، وعليه، فإن السوريين جميعاً مدعوّون إلى إبداع حل حقيقي، لاسيما وأن السياسات السابقة وصلت إلى طريق مسدود، فلا سياسات إنكار الوجود والإقصاء والتهميش والتمييز خلال العقود السابقة صمدت أمام حقيقة الوجود الكردي، ولا جموح العقل السياسي الكردي، استطاع أن يؤمن حلاً من طرف واحد.
_ إن الكرد السوريين لعبوا دوراً مشرِّفاً، في محاربة الإرهاب، أما محاولات توظيف الولايات المتحدة لهذا الدور لصالح استدامة الأزمة السورية، والاشتغال على الفالق القومي، لا يقل خطراً عن داعش نفسها، سواء كان بالنسبة للسوريين عموماً أو الكرد خصوصاً، ونعتقد أن تجربة عفرين، يجب أن تكون كافية بأن توقظ العقل القومي الكردي من غفوته.
كيف تردع تركيا
من المفهوم تماماً، أن يجري البحث عن مخرج، بعد احتلال عفرين، وفي ظل التهديدات التركية التي باتت يومية، وعلى لسان رئيسها مباشرة، ولكن، هل يمكن التعويل على الفرنسي، إذا خذلت واشنطن الكرد، بل هل يمكن التعويل على الوعود الفرنسية_ الأمريكية معاً، حتى لو لم تنسحب واشنطن؟
ولكي نستطيع تقديم إجابة حقيقية عن هذه الأسئلة، ينبغي العودة إلى خلفية تصريح الرئيس الأمريكي، وطريقة واشنطن في التعاطي مع الملف السوري عموماً، والملف الكردي بشكل خاص.
بعد التطورات الدراماتيكية في الأزمة السورية، وفي السنة الثانية من الأزمة، جرى ما يشبه عملية استلام وتسليم، بين أجهزة الدولة السورية، وسلطات الإدارة الذاتية، ومع بروز خطر داعش، تم تشكيل قوات الحماية، التي لعبت دوراً مشهوداً في مجابهة هذا التنظيم الفاشي، ويسجل أول انتصار عسكري على داعش باسم هذه القوات في ملحمة «عين العرب أو كوباني» سمها ما شئت...لا فرق بين الاسمين، في جغرافيا محكومة بوحدة المصير!
بعد انحار داعش في «كوباني» حاولت الولايات المتحدة الاستثمار في هذه الظاهرة اللافتة، وجعلت من نفسها شريكاً في الانتصار، بعد أن كانت داعمة لداعش، وسبباً في تمددها، مستغلة حاجة وحدات الحماية، بعد أن فرض عليها أن تكون وحيدة في الميدان، وبدأ شهر العسل «الامريكي_ الكردي»، وبات التغزل بالتحالف الدولي بسملة الكثير من التقارير الإعلامية الكردية، حتى كاد البعض من المحسوبين على قوات الحماية أن يسجل هذا المنجز التاريخي الذي تحقق بدماء أبطال وبطلات الكرد، باسم ما سمي بقوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، كانعكاس لثقافة العقل القومي المستلب.
تصاعد الاهتمام الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً بهذه القوة الناشئة، وتم التنسيق العلني معها، وبدأت السِفارات من وإلى واشنطن، وهكذا أصبح الأعداء حلفاء، فمن اشترك في المؤامرة الدولية باعتقال الزعيم التاريخي، بات يدعم «ثورة روج آفا»، وحليف تركيا التاريخي، بات نصيراً للأمة الديمقراطية، رغم أن العدو السابق، والحليف الجديد لم يكلف نفسه عناء حذف اسم حزب العمال الكردستاني حتى تاريخه من قائمة المنظمات الإرهابية، بربكم لماذا تعاتبون أردوغان إذاً؟ ورغم التأكيد المستمر من قبل التحالف الدولي بأن دعم قوات الحماية مجرد تعاون عسكري وليس سياسياً! هل يدرك «فلاسفة» الأمة الديمقراطية الجدد معنى هذا الكلام !؟ وهل يدركون إن إحدى مهام الشركة الأمنية الملتحية المسماة بـ «داعش»، كانت الضغط على كل القوى على رقعة الشطرنج الإقليمية، بغية احتوائها أمريكياً، والإمساك بكل خيوط كبكوبة الشيطان «الفوضى الخلاقة»، وإفلات من تنتهي خدماته، ليهيم على وجهه في هذه الغابة التي تسمى الكرة الأرضية؟
لنترك هذه الأسئلة، وإجاباتها المضمرة جانباً، ونتحدث بالوقائع:
اصطدم هذا «الانفتاح الأمريكي» مع مشكلة موضوعية، وهي العلاقة التاريخية مع تركيا، ودور هذه الأخيرة الجيوسياسي في الصراع الدولي، حاولت واشنطن عبثاً حل هذه الإشكالية، على مبدأ الإحتواء المزدوج، وهو ما لم تفلح به حتى الان.
هل ستفلح واشنطن؟
دون الغرق في التحليل، والقراءة التجريدية للمشهد، لنتحدث بالوقائع الملموسة.. هل نفذت واشنطن وعداً واحداً من وعودها لأي حليف قديم أو جديد لها خلال السنوات الخمس السابقة؟ أم أنها دفعت الجميع إلى مآزق، بحيث تستطيع ابتزازهم أكثر فأكثر؟
ما لم يدركه، بعض الكرد إلى الآن، أن واشنطن حتى لو أرادت فإنها لم تعد قادرة على فرض أجنداتها كالسابق، وهي مضطرة أن تتنازل للقوى الأخرى، وفي إطار هذه التنازلات فإنها تطيح بأضعف حلفائها، وأقلهم ريعية، كونها براغماتية، ولا أخلاقية على طول الخط، والأهم كونها مأزومة وعاجزة.
في هذا السياق ينبغي فهم التلويح الأمريكي بالانسحاب، من المشهد مكرهة، وتوكيل الأمر إلى الحليف الفرنسي، في ذروة التهديدات التركية باجتياح الشمال السوري، لعل وعسى أن تفلح في توسيع رقعة التوتر والحرب، حيث توتر متزايد في العلاقات الفرنسية التركية، وكذلك الامر بالنسبة إلى العلاقات الفرنسية الروسية، والعلاقات الإيرانية التركية، وتعميق الفالق القومي العربي_ الكردي، والمذهبي السني الشيعي.. ولكن، وأيضاً بسبب التوازن الدولي الجديد ووجود استراتيجيات بديلة وواقعية، وموضوعية، وتمتلك من الأدوات بما يمكنها من فرض وجودها، فإن المصير النهائي لهذه المحاولات هو الفشل « هل تتذكرون كوريا» وبالتالي فإن الخروج من دائرة الوصاية الأمريكية هو الشرط الأساس لأية قوة اليوم، للخروج بأقل الخسائر من هذه المعمعة آنياً، والانتصار استراتيجياً، حتى لو كان خروجاً متأخراً، ونقصد بالخروج هنا: التخلي عن تلك التصورات التي تقول: أن واشنطن يمكن أن تساعد أحداً، وأن واشنطن قادرة على فرض استراتيجياتها التي يحاول البعض الاستفادة منها، ونقصد أيضاً، الخروج من ملعب العنف الذي يعتبر ملعباً أمريكياً، وأداة توريط الكل، وبعبارة أوضح: الذهاب إلى الاستراتيجية البديلة والنقيضة للاستراتيجية الأمريكية «الفوضى» إلى استراتيجية الحلول السياسية، وطالما أنها حلول سياسية فإن الكل قادر على تثبيت حقوقه المشروعة، مع التنويه بأن من يخرج قبل الاخرين، ستكون الفرصة المتاحة له أكثر.
ومن هنا، فإن التعويل على فرنسا لوحدها، أو باستمرار الوجود الامريكي، لردع الجموح التركي العدواني، لا يعني إلا تغيير اتجاهات التوتر، ودفعه إلى مستوى أعلى، وهو وهم آخر يضاف إلى سلسلة الأوهام السابقة، فهذه الفرصة التي يعتبرها البعض تاريخية ما هي إلا استغلال لحاجة فرنسا إلى لعب دور ما في سورية الجديدة، بعد أن بات الشروع بالحل السياسي أقرب من أي وقت مضى. a