«الياهُملالي» بنسخة USA

«الياهُملالي» بنسخة USA

يكاد يكون مضحكاً الدرك الذي وصلت إليه السياسة الأمريكية اليوم، ولعلَّ وصف الصحفي الأمريكي، مايكل ديان، لها بأنها «كمن يسير في ممر ذي أبواب عدّة مفتوحة على بعضها، لكن بابيه الرئيسين موصدان بأقفالٍ لن تتحرر» فيه شيء من الدقة. سوى أن المثير للغثيان_ والذي لم يعد مسلياً بعد الآن على الإطلاق_ هو الطريقة التي تتفاعل فيها ما ابتلينا من «نخبٍ» ثقافية وسياسية في منطقتنا مع كل إشارة رديئة تنطلق من البيت الأبيض.

 

«جون بولتون: شخصية مستفزة وميالة للحرب على رأس الأمن القومي الأمريكي»، «تطرف جون بولتون قد يقود أمريكا إلى كارثة»، «جون بولتون: الصقر الذي يريد قصف كوريا الشمالية وإيران»، «جون بولتون سينظف البيت الأبيض»... إلخ. هذه عيّنة من عناوين الصحافة الغربية والعربية إبان اختيار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للمندوب الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، مستشاراً جديداً للأمن القومي الأمريكي.

السياسات لا القناعات
تعود جذور الحالة التي أصابت بعض النخب جراء هذا التعيين إلى المواقف التي أعلنها بولتون في زمن خدمته من عام 2005 إلى 2006 لدى إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، غير أن ما يتعامى عنه دعاة «الخوف من بولتون» أن تاريخ هذا الأخير ليس تاريخاً شخصياً، والمواقف التي أعلنها في حينه إزاء القضية الفلسطينية وإيران وحرب تموز في لبنان لم تكن مواقف نابعة من قناعات شخصية، بل كانت «أداءً أميناً» لضرورات الإدارة الأمريكية في تلك الحقبة. وهنا لا بد من التساؤل: هل كان سلف بولتون، هربرت ماكماستر، مُحباً للقضية الفلسطينية مثلاً؟ أو متصالحاً مع إيران وكوريا الديمقراطية؟
القول بأن تقلّد هذه الشخصية أو تلك لمنصبٍ ما داخل الإدارة الأمريكية سوف يغيّر من أولويات هذه الإدارة تبعاً لمزاج الوافد الجديد على المنصب، إنما يعكس جهلاً واضحاً في فهم الآلية التي تسير وفقها سياسة واشنطن. فالسياسات وضروراتها وما تحمله من صراعٍ داخل «البيت الأمريكي» هي التي تنتج تغييرات وإقالات واستقالات في الإدارة، لا العكس. وهذا ما تفهمه حتى القوى المناوئة للهيمنة الأمريكية، كإجابة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما سئل عن بولتون، مكتفياً بالقول: «شخص مهني، سيسير على الخط السياسي الذي يرسمه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب».
أصل الصراع
بعد فترة «هدوءٍ» مؤقتة ونسبية، يشتد الصراع مجدداً داخل الإدارة الأمريكية، وما التغييرات الأخيرة_ بما فيها إقالة تيلرسون وماكماستر_ التي طرأت على قوام هذه الإدارة سوى انعكاس لحدة هذا الصراع الذي يتجاوز ثنائية «جمهوري» و«ديمقراطي» ليطال أركان هذه الإدارة بمجملها. والمتابع لمراكز البحث الأمريكية المتربطة بالقوى المتصارعة داخل الإدارة يمكنه أن يلحظ بسهولة، أن معظم هذه التحليلات تتقاطع في نقطة غالباً ما تتجاهلها وسائل الإعلام في المنطقة، وهي تحديداً الاعتراف الضمني بتراجع الوزن النوعي للولايات المتحدة عالمياً، غير أن الصراع يدور حول أولوليات هذا التراجع، وفي درجةٍ ما حول الطريقة التي سيتم على أساسها التراجع. وعلى هذا الأساس، ثمة تيار مالي بحت يمثل رأس المال المالي العالمي الإجرامي، ورقبة هذا التيار موضوعة تماماً تحت سكين الضربات التي توجهها القوى الدولية الصاعدة صوب الدولار الأمريكي، ولهذا، فإن هذا «التيار الفاشي» المُهدَّد وجودياً يرى ضرورة في توسيع نطاق الاستفزازات العسكرية وخلق بؤر التوتر وتأجيجها على التخوم الروسية والصينية. في المقابل، هنالك تيار أقرب في بنيته الاقتصادية للإنتاج الصناعي، والضربات التي تقوم بها القوى الصاعدة ضد الدولار الأمريكي تكبده خسائر فادحة جداً، لكنها لا تهدده وجودياً، وهو ما نصطلح عليه «التيار العقلاني»، ذلك لأنه وإن تقاطع مع الأول في الاعتراف بالتراجع الأمريكي عالمياً، إلا أنه يفضّل القيام بعملية تراجع منظّم تضمن بقاء الدولة الأمريكية بعيدة عن انعكاسات المضي في خيار المواجهة المفتوحة التي لم تعد وفقاً لموازين اليوم تميل لمصلحة الحلف الأمريكي، وذلك لا يمنع «التيار العقلاني» من الاستفادة من زخم الفوضى الفاشية التي يقوم بها التيار الأول.
لماذا الآن؟
منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية في عام 2015، كان عنوان الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب هو «أمريكا أولاً»، بما يحمله من خيار الانكفاء إلى الداخل الأمريكي، والذي تم التعبير عنه بأشكال مختلفة على لسان ترامب وطاقمه الانتخابي، ولاحقاً من خلال سياساته التي لم تكن آخرها مسألة الرسوم الضريبية، ولا سيما على واردات الحديد والألمنيوم، التي تشكل قطاعاً حساساً بالمعنى الاقتصادي نظراً لارتباطه بصناعاتٍ عدة.
في إطار خيار التراجع المنظّم هذا، لا بد لتنظيمه من إعطاء انطباع عام بأن ما يجري ليس تراجعاً، بل تقدماً، لكن ما يمكن استخدامه من أدوات في هذا السياق لا يتعدى نطاق رفع حدة الخطاب الإعلامي وتصدير الوجوه ذات السمعة الحربجية. وأمام هذا الحال، لن يكون بولتون (الشخصية التي تحاول الماكينة الإعلامية دب الرعب في قلوبنا منها) وغيره من وجوه المراحل الأمريكية السابقة محمولاً على الموازين ذاتها التي تغيّرت منذ ما قبل 2005 إلى 2018 بشكلٍ واضح جداً لمصلحة قوى القطب الصاعد.
هل هذا يعني أن شخصية بولتون لن تكون مؤثرة إطلاقاً؟ قد تحاول الإدارة الأمريكية الاستفادة من السمعة الحربجية للرجل لتمرير بعض صفقات التراجع (لكن من منطق قوة شكلية)، وللإيحاء بـ«طمأنة» حلفائها الذين يعيشون اليوم تحت ضغط كبير، قوامه عوز الأدوات الأمريكية من جهة، في مقابل انفتاح أفق العلاقات مع القوى الصاعدة من جهة أخرى.
لكل ما سبق، تحتاج هذه الإدارة، في ظل ضروراتها اليوم، إلى شخصيات كشخصية المحقق «الياهُملالي» في «ضيعة ضايعة»، تعطي انطباعاً بالعنجهية والقوة وبالإمساك بزمام الأمور، فيما تعكس هشاشة البنية التي تمثلها، كما أنها تسعى إلى تنفيذ «توجيهات القيادة» بأمانة.