وداع (النصرة) الصعب!
رغم أن الهجوم على النصرة كان حتمياً، فإن العمل العسكري على إدلب، يلقى هجوماً كبيراً من قبل أطراف عديدة وبمواقع متباينة، وبذرائع متعددة، وهذا الهجوم هو ما أرادته القوى الدولية الداعمة للإرهاب، وللنصرة تحديداً.
تبين منذ الإعلان في أستانا عن منطقة خفض التصعيد في إدلب، أن الأطراف الضامنة تسعى لتفكيك جبهة النصرة، وتعميق فصل المعارضة المسلحة في المنطقة عنها، وتحاول قدر الإمكان أن تقلل حجم الضربة العسكرية المطلوبة في إدلب، حيث يتواجد أكثر من مليون سوري وفق التقديرات الأممية، وحيث يمكن استثمار هذا في تصعيد سياسي كبير. ولكن الأطراف الفاشية الأمريكية الداعمة للنصرة أرادت تعقيد المسألة، وقامت بإحداث خلل في التوازنات داخل إدلب لصالح النصرة، عقب توقيع اتفاق خفض التصعيد. حيث شنت النصرة هجوماً واسعاً، ووسعت مناطق سيطرتها، وشكّلت حكومة، وأصبح انفصال أطراف المعارضة المسلحة عن التنظيم الإرهابي أصعب وأغلى ثمناً على هؤلاء. وهذا كله لجعل العمل العسكري على النصرة بأثمان سياسية أعلى.
واتضح بعد هذا، أن خيار تفكيك النصرة وإنهائها بالاتفاقات السياسية خياراً صعباً، والمسألة تحتاج إلى ضربات عسكرية محددة، تعيد التوازن العسكري في إدلب، لتعزل النصرة، وتصبح مسألة إنهائها أسهل، سواء سياسياً أو عسكرياً أو كليهما.
الأمريكيون يدافعون عن استثمارهم بالنصرة
يهاجم الأمريكان، والمتحدثون بلسانهم، والمتسلقون على أوهام ردود أفعالهم وعودة تدخلهم، الدور الروسي تحديداً في مواجهة النصرة... ويتشدقون بالدفاع عن منطقة خفض التصعيد. بينما بالحقيقة فإن هذا الدفاع ليس إلا دفاعاً عن النصرة، وهي الذريعة الأخيرة المتبقية، وشماعة محاولات إنهاء مناطق خفض التوتر، وبالتالي إنجازات أستانا كلها، التي أحيت العملية السياسية في جنيف، ودفعت الأمم المتحدة والجهد الدولي، للحاق بالركب الروسي لدفع الحلول السياسية في سورية للأمام.
أبقت الأطراف الفاشية الأمريكية بالدرجة الأولى استثمارها في النصرة، بل وعززته، لتمنع عملية تفكيكها سياسياً، ولتفتح معركة سياسية على وقع المعركة العسكرية لمواجهة النصرة. فالولايات المتحدة تحتاج للنصرة كأمل أخير في إحداث تصعيد عسكري، يؤخر الحلول السياسية السورية التي يرى الأمريكيون أنها آتية لا محالة، ولكن قبولها مرّ، وتحديداً في ظل صعوبات في التصعيد الإقليمي في مناطق أخرى. فالنصرة تستطيع باستمرارها أن تبقى بؤرة تصعيد، وأن تشكل جواً عسكرياً وسياسياً يسمح برفع التوتر وتهيئة جوٍ لخرق التصعيد في مناطق عدة، وإحياء آمال (نجاحات عسكرية). وتحديداً في ظل تداخلها مع مناطق المدنيين، ومناطق المعارضة، والقدرة على الاستثمار السياسي التصعيدي في أية معركة عليها كما يحصل الآن. فالمعركة على النصرة في إدلب، ترافقت مع ضربات على القاعدة العسكرية الروسية، وترافقت مع تصعيد في جنوب دمشق، وحتى في درعا. وتلقت هذه الإشارات للتصعيد الأمريكي الأطراف المحتقنة كلها من مناطق خفض التوتر، وبدأ الجميع دون استثناء محاولة تسجيل خروقات في دمشق وحمص ودرعا، لم تنجح في خلق عتبة التصعيد الكافية.
تركيا تخسر أوراقاً سياسية
الملفت إثر الهجوم على النصرة موقف الطرف التركي، وهو المعني بمنطقة إدلب أكثر من غيره. فرغم أن الأتراك جزء من اتفاقات أستانا، ورغم موافقتهم على منطقة خفض التصعيد في إدلب، إلا أن موقفهم وسلوكهم بدا رافضاً لهذه المعركة، وتصعيدياً، ثم ما لبث أن تراجع نسبياً في مسألة إدلب وانتقل للتصعيد فيما يتعلق بالأطراف الكردية السورية.
الأتراك يمتلكون ورقة عسكرية سياسية في إدلب، وهي بازارهم الأخير في القضايا التي يعتبرونها أكثر إلحاحاً، وتحديداً في مواجهة القوى الكردية السورية التي يعتبرونها تهديداً لأمنهم القومي. حيث يصعب عليهم حتى اليوم قبول وضع المسألة الكردية في سورية محل البحث السياسي الدولي، لأن هذا سيفتح بوابة الحلول السياسية للمشكلة الكردية إقليمياً، وبالتالي في تركيا بالدرجة الأولى. والدور الأمريكي في منطقة الشمال السوري يعقد المسألة على الأتراك، ويصعّب التعقل التركي، وقبول الأمر الواقع، باستحقاق الحلول السياسية للمشكلة الكردية في سورية والمنطقة ككل.
فالأتراك يتعرضون لضغوط أمريكية غير مباشرة، حيث إن دعم الأمريكان للنصرة وإنعاشها والاستثمار فيها تصعيدياً، يجعل الأتراك أقل قدرة على استثمار نفوذهم العسكري في منطقة إدلب، ويفشل محاولاتهم في فصل المعارضة المسلحة عن النصرة. ما يجعلهم يخسرون هذه الورقة السياسية التي يعتبرون أنهم بحاجة لها، في ظل الضغط الأمريكي العسكري بقواتهم ودعمهم لأطراف كردية سورية، وفي ظل الضغط الدبلوماسي الروسي بالدرجة الأولى، الذي يصر على سحب ورقة التصعيد القومي من الأمريكان، ويصر على ضرورة وضع المسألة الكردية السورية على طاولة البحث، وإشراك ممثليها في المؤتمرات الدولية المعنية بحل الأزمة السورية.
ولذلك فإن الأتراك أبدوا خشيتهم من ضرب النصرة عسكرياً، لأن هذا قد يعني خسارة أطرافٍ من المعارضة المسلحة في المنطقة، من الرافضين للانفصال عن النصرة، وقد يعني استعادة الجيش السوري لمناطق حيوية في إدلب وريف حلب الغربي، وإنجاز عسكري سياسي، يُخسر تركيا وزناً هاماً وجزءاً من ورقتها السياسية الهامة. ولذلك فإنهم لجأوا للتلويح والتصعيد بالورقة الأخرى، وهي: التصعيد ضد الأكراد في عملية بازار سياسي، ستنتهي في ظل التوازنات الدولية لعودة الأتراك للتعقل... الأمر الذي ظهر في تراجع نسبي في تصريحاتهم، وبعودتهم للعمل على إجراءات مؤتمر الحوار الوطني مع الروس والإيرانيين.
الولايات المتحدة تودع النصرة بمرارة، وتعبر عن مرارتها باستنهاض كل إمكانات التصعيد، وبيع الأوهام، وبمحاولات يائسة كتحفيز الضربة العسكرية على القوات الروسية، التي يراد منها تسويق الأوهام للمتشددين (بالعودة الأمريكية للساحة السورية)، كما فعلوا يوم ضربة الشعيرات. وستكون النتيجة ضربة عسكرية تقصم ظهر النصرة، وتنهي شماعة خرق التصعيد وتثبته جدياً لاحقاً، وضربة سياسية للمتشددين كلهم في الأطراف كلهم، ممن حاولوا تسلق الموجة، ورفع التوتر العسكري والسياسي، ستنعكس هذه الضربة إيجاباً في جولة العمل السياسي القريبة القادمة في كل من جنيف وسوتشي.