حمى الانفصال:  كوابح المسار الطبيعي

حمى الانفصال: كوابح المسار الطبيعي

لم يعد خافياً أن النزعة الانفصالية، التي لاقت ردود فعل عريضة، في كتالونيا وغيرها من المقاطعات في أوروبا، يمكن تلمسها كظاهرة تتشكل كرد فعل يقابل أحد مظاهر الأزمة الرأسمالية الحالية.

في مرحلة الصعود الرأسمالي، كانت موجة الدمج والتوحيد ضرورة قصوى لتوحيد سوق رأس المال والاستفادة من جميع الإمكانات التي تقدمها هذه الأسواق للاستثمار، من خلال التحكم الاحتكاري بالأسعار، وارتبط هذا طبعاً بالتحكم الدولاري الذي فرضته الولايات المتحدة من خلال التحكم بكبرى الأسواق، وهي: سوق النفط العالمية، ذلك كله بوجود النهب المستمر لدول الجنوب المفقرة التي شهدت غزواً توسعياً حتى لم يبق شبر من السوق الممكنة عالمياً لم تطأه قدم الرأسمالية، وكانت تلك «الفتوحات» فاتحة لانتهاء عصر النهب بطريقة «ميغا أرباح» خصوصاً مع إعمال مفعول القانون الذي يفعل فعله مع تقدم لرأسمالية، وهو ميل معدل الربح نحو الانخفاض.

موجات الدمج الكبرى

ومع موجات الدمج الكبرى تطورت في قلب الرأسمالية الضرورات التقنية الأساسية لتوحيد الأسواق العالمية، والتي تشكل في الوقت ذاته الضرورات الموضوعية لجعل العرض والطلب اللحظيين ممكنين عالمياً، وهي أولى المتطلبات لنفي الأرباح الناجمة عن تفاوت العرض والطلب في الرأسمالية عموماً.

مع انخفاض الأرباح الرأسمالية عالمياً، اضطرت الرأسماليات الكبرى إلى تضخيم القطاع المالي منها (وخاصة الدولاري) لتعويض النقص في الأرباح الناتجة عن الاقتصاد الحقيقي (الصناعي والزراعي)، لكن الإجراءات التي يقوم بها رأس المال المالي لا يمكنها إلا أن تغرق الاقتصاد الرأسمالي في أزمات، باتت وتيرتها أكثر تسارعاً ومداها أشد عمقاً، لأنها تتناقض مع الطبيعة الأساسية للرأسمالية التي تقودها نحو نسبة أرباح تقارب الصفر مع توسعها.

هل التفتيت هو الحل؟

بدأت العديد من الدول الرأسمالية في اتخاذ إجراء يبدو ظاهرياً حلاً ممكنا، فإذا كان التجميع (الموحد للأسواق الرأسمالية) قد أوصل الاقتصادات إلى تدني نسب الأرباح إلى هذه الدرجة، وإلى تلاعب رأس المال المالي المولد الدائم للأزمات، فلماذا لا يكون التفتيت حلاً في وجه هذه السياسات الفاشلة؟ 

لكن ما لا يدركه أصحاب سياسات التفتيت أن هذه الإجراءات التي تبدو ظاهراً حلاً ممكناً، لن تستطيع رفع معدلات الأرباح موضوعياً (رغم أنها يمكن أن تبطئ هذه العملية من خلال إعاقة تقدم الرأسمالية الطبيعي ولو جزئياً في تلك الدول).

أرباح صفرية

تضطر العديد من الدول وخاصة في شمال أوروبا إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات غير الرأسمالية في سبيل تطويل عمر الرأسمالية من قبيل سيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية، التي باتت غير مربحةً.

وتبدأ طروحات من قبيل: الحد الأساسي للدخل حق للعيش البشري، بغض النظر عما إن كان يعمل أم لا بالظهور، فحق العيش قد أصبح حقاً مهدداً حتى في دول الجنوب الأوروبي.

أزمة القروض الشخصية

وفي تجل للأزمات التي يسببها رأس المال المالي، يمكن تتبع أزمات القروض الشخصية في دول مثل: فرنسا وإنكلترا حيث يقترض العمال قروضاً صغيرة لإكمال دفع المصاريف الشهرية يتم تسديدها تقسيطاً على الأشهر الباقية من السنة أو على عدة سنوات، وتصل فوائد هذه القروض إلى ألف وثلاثمائة بالمئة، أي: أن العامل يغرق في الديون كل شهر حتى تصل ديون البعض إلى عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من اليوروهات أو الجنيهات الإسترلينية، بحيث لا يمكن سدادها حتى الجيل الثالث من بعده.

بحر من الديون

إذا كان استغلال الرأسمالية للثروات الدفينة بالطريقة الجشعة التي قامت بها قد تم اعتباره سرقة مما يمكن أن تستغله الأجيال القادمة من البشرية بشكل متوازن، فإن هذه السرقة تتم حرفياً من الأجيال القادمة للعمال. ولا تخرج عن هذا النطاق فكرة المشاريع الصغيرة التي تم بها إغراق دول العالم الثالث (كحلٍ مفترض!) وألقت بالملايين من الناس في بحر من الديون التي لا يمكن سدادها.

هذا يعود بنا إلى المعتقدين بأن التفتيت هو الحل، حيث يفترض هذا المنطق عودة إلى الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة) وتراجعاً ضرورياً عن إجراءات رأس المال المالي التي أزمت الأوضاع، لكن المعطيات السياسية تظهر وعياً متزايداً إلى أن فكرة «الرأسمالية ليست هي الحل» وانتشاراً أوسع لهذه الفكرة في أرجاء العالم المترامية بأشكال لا تشمل الأحزاب الاشتراكية والشيوعية فحسب، بل شرائح متزايدة من الناس المكويين بنار الأزمة الرأسمالية.

بريق الخصخصة

خفت البريق الذي يشع حول الخصخصة في العالم الثالث، بعد كشف العفن القابع كله فيما فرضته المؤسسات المالية الدولية (كصندوق النقد الدولي) كما خفت البريق الذي كان حول المنظمات غير الحكومية التي كانت تروج للسياسات الرأسمالية كلها «الفاتحة» لما تبقى من أسواق دول العلم الثالث.

أصبحت الأمور الآن أكثر وضوحاً و«شفافية» وتنكشف يوماً بعد يوم محاولات حرف الصراع الطبقي عن مساره من خلال الصراعات العرقية والدينية والمذهبية (بأشكال انفصال أقاليم أو غيرها)

ولئن كانت مناهضة العولمة في بداياتها شكلاً من المقاومة الشعبية لتوسع أسواق رأس المال، فإن المصير المحتوم للتجميع الأممي يلقى مقاومة رأسمالية اليوم.

الخلاص الفردي

إذا كانت حمى الانفصال والتقسيم هي التجلي السياسي للأزمة الرأسمالية الراهنة، فمن الهام إدراك موضوعة: أننا على مركب واحد، وكما أن الخلاص الفردي لا يمكن أن يكون، فكذلك على مستوى الدول والأقاليم التي تبحث عن خلاص فردي لها بعيداً عن باقي البشرية، فهذا المركب الواحد أمامه مصير مشترك واحد، يسير إما نحو حل لكل مشاكل البشرية بتجلياتها كلها الاقتصادية والصحية والبيئية التي سببها النظام الرأسمالي الحالي أو إلى الفناء، إنه خلاص جماعي حتماً، حتى على مستوى مصير الدول، ولا تخرج عن هذا الإطار دول منطقتنا رغم اختلاف المعنى الاقتصادي لذلك، فعندما ندعو إلى الشرق العظيم، فهي مرحلة نمضي بها على طريق الخلاص الجماعي، عبر التوحيد وليس عبر موجات التفتيت التي تستهدف تفتيت المفتت في دول الرأسمال الطرفية، لأهداف أخرى تختلف عن تفتيت المركز كخلاص فردي، فهي في منطقتنا تهدف إلى تسهيل السيطرة على ما تبقى من ثرواتنا الوطنية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
834