بانوراما التوتير.. خيارات محدودة
أخذ الوضع في العديد من الملفات الدولية، اتجاهاً تصعيدياً من طرف الولايات المتحدة، وتجلى هذا التصعيد بالدرجة الأساسية على المسار العسكري، بالترافق مع زوبعة إعلامية عن عودة السيادة الأمريكية على القرار الدولي.
إحدى أهم ساحات التوتر، كانت الساحة الخليجية، وباستعراض سريع للموقف الأمريكي في المسألة الخليجية، يتبين بشكل جلي حجم الانقسام الأمريكي، انقساماً يعكس في شدته درجة تفسخ المنظومة السياسية، تم التعبير عنه بشكل مبتذل.. هل لأن الملعب الخليجي ميدان المصالح المباشرة لكل النخبة الرأسمالية الأمريكية «القطاع المصرفي، شركات السلاح، القطاع العقاري، قطاع النقل...»؟
صفقات سلاح وشفط البترودولار
قال الرئيس الأمريكي في تغريدته الشهيرة، بعد تفجر الخلاف الخليجي: «من الجيّد أن نرى أن زيارة المملكة العربية السعودية واللقاء مع الملك و50 دولة بدأتا بإعطاء نتائجهما. قالوا: إنهم سيتبنّون موقفًا أكثر حزمًا في التعامل مع تمويل التطرّف، وكل التلميحات كانت تشير إلى قطر. ربما سيكون هذا بداية نهاية الإرهاب».
تصريحات ترامب ومواقفه حول الأزمة الخليجية، كانت متناقضةً مع مواقف وزارتي الخارجية والدفاع، بل والبيت الأبيض نفسه؛ ففي حين كان هؤلاء جميعًا يدعون إلى التهدئة، كان ترامب يصعد الموقف أكثر فأكثر، وفي اليوم الذي أعلنت فيه السعودية والإمارات والبحرين قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، كان كل من وزراء الخارجية، والدفاع، ريكس تيلرسون، وجيم ماتيس، يطلبان من الأطراف المختلفة الهدوء، وإيجاد حل سلمي للأزمة. أما الناطق باسم القوات الجوية الأمريكية التابعة للقيادة الأمريكية الوسطى، المقدم داميان بيكارت، فذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: إن «الولايات المتحدة والائتلاف (الدولي لمكافحة الإرهاب) يشعران بالامتنان للقطريين لدعمهم وجودنا (في قاعدة العديد التي تشن منها الولايات المتحدة هجماتٍ على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية) والتزامهم طويل الأمد بالأمن الإقليمي». وكانت تغريدات ترامب مناقضةً تماماً، لتغريدات نشرتها السفيرة الأمريكية في قطر، دانا شل سميث، قبل ذلك بيومين، في الرابع من حزيران/ يونيو الجاري؛ إذ قالت إن قطر حققت «تقدمًا حقيقياً» في كبح الدعم المالي للإرهابيين.
وبينما كان الناطق باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، يحاول الحدّ من تأثير تخبيصات ترامب، فإن الرئيس الأميركي عاد وناقض توضيحات الناطق باسمه. ففي اليوم الذي غرّد فيه عبر «توتير» موجهًا أصابع الاتهام إلى قطر، قال سبايسر إن «الولايات المتحدة تريد نزع فتيل هذه الأزمة، وحلها على الفور ضمن المبادئ التي عرضها الرئيس فيما يتعلق بالقضاء على تمويل الإرهاب»، بل إن سبايسر ذهب إلى أبعد من ذلك، بتأكيده أن ترامب أجرى محادثات «بناءة جدًّا» مع أمير قطر خلال زيارته الرياض في أيار/ مايو.
وفي اليوم التاسع من الشهر الجاري، كانت ذروة التناقض في الموقف الامريكي عندما ألقى وزير الخارجية، تيلرسون، كلمة مقتضبةُ في مقر وزارته، قال فيها إن على قطر بذل مزيد من الجهد لوقف دعم الإرهاب. ولكنه شدّد، في الوقت نفسه، على ضرورة أن تسعى كل الأطراف إلى حل خلافاتها من خلال المفاوضات، ودعا الحلف المحاصر إلى تخفيف الحصار الذي فرضه على قطر في شهر رمضان، معرباً عن قلقه إزاء التكلفة الإنسانية المترتبة عليه، فضلًا عن أنه يعيق الحرب على «داعش». ولكن وبعد ساعة فقط من تصريح تيلرسون كان ترامب، ومن خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الروماني، يكيل الاتهامات لقطر من جديد، وقد عدّ الإصرار على عزلها انتصاراً لموقفه الداعي إلى وقف جميع صور الدعم لمن وصفهم بـ «المتطرّفين»، والتأكيد من جديد على أن قطر «مصدر رئيس لدعم التطرف»، وأن النجاح في الضغط عليها سيمثّل بداية نهاية ما وصفه بـ «الإرهاب».
عبثاً، تحاول بعض قوى النخبة التقليدية في الغرب الرأسمالي، احتواء التوتر الخليجي، ولكن عملية ابتزاز الطرفين مستمرة، والترتيبات الجديدة في البيت السعودي الداخلي، ومن الواضح أن الجيل الجديد من الأمراء والملوك بعد الترتيبات الجديدة في البيت الداخلي الخليجي تقود الأوضاع، وبإجماع المراقبين إلى المزيد من التوتر اللاحق.
الأزمة الكورية ومنظومة ثاد
الميدان الآخر للتوتر، هو شرق آسيا وتحديداً ملف الأزمة الكورية، فبعد سلسلة تصريحات حربجية لأركان الإدارة خلال الشهرين السابقين، وإرسال حاملة طائرات أمريكية إلى شبه الجزيرة الكورية، ومحاولة الاشتغال على ايجاد خلاف روسي – صيني في ملف الأزمة الكورية، لم يتغير في الأمر شيئاً فالتجارب الصاروخية الكورية الشمالية مستمرة، ومحاولات الاختراق الأمريكية الوحيدة كانت: نشر منظومة ثاد، وحتى في هذه لم تفلح واشنطن إثر الخلاف على تمويل نشر المنظومة من جانب، ومن جانب الموقف الكوري الجنوبي حول مشروعية نشر المنظومة أصلاً قبل موافقة البرلمان.
الميدان السوري
يلاحظ المتابع لسلوك واشنطن في الأزمة السورية خلال الشهرين الأخيرين، محاولة تعزيز الوجود العسكري المباشر، مع العلم ان المعطيات تشير إلى عدم وجود ضرورة لذلك، فداعش تنحسر، والمسار التفاوضي لحل الأزمة قائم على قدم وساق، ولكن ورغم ذلك حاول البنتاغون تثبيت وجوده المباشر في المنطقة الجنوبية، الأمر الذي أدى إلى مواجهة مباشرة مع الجيش السوري وحلفائه أكثر من مرة، لتكون النتيجة قطع الطريق على واشنطن وحلفائها في جنوب سورية، وتحذيراً روسياً يحدد خريطة الطلعات الجوية الأمريكية.
أفغانستان مربط خيلنا
تعتبر أفغانستان تاريخياً الرحم الذي ولدت منه جميع التنظيمات المتطرفة، برعاية أمريكية لا تنفيها واشنطن، ورغم اليد الطولى لواشنطن في تلك المنطقة، إلّا أنّ خطر الإرهاب يزداد كالعادة، هذا المآل قاد دول المنطقة بما فيها باكستان حليف واشنطن التقليدي إلى البحث عن خيارات جديدة، لدرجة إمكانية التخلي عن خدمات واشنطن في هذا المجال، ويأتي التنسيق العسكري الروسي – الصيني – الباكستاني، خطوة جدية في هذا المجال تضع واشنطن أمام خيارين: إما الانخراط الجدي في مواجهة الإرهاب والكف عن تحويله إلى ورقة ضغط، أو الخروج من الميدان لصالح التنسيق الثلاثي آنف الذكر، إن الدخول الروسي - الصيني المباشر على خط الأزمة الأفغانية يحمل في طياته الكثير من الرسائل، وأولاها أنه بات في حكم الممنوع استفراد واشنطن بالقرار في أي ملف دولي.
سباق تسلح
وبالإضافة إلى كل ما سبق، تحاول الماكينة العسكرية – الإعلامية الأمريكية توتير الوضع بشكل مباشر مع روسيا والصين من خلال الحركشة المتكررة بالدولتين على حدودهما، وسجلت وزارة الدفاع الروسية ممانعة 24 من الطلعات الجوية «الاستطلاعية» على حدودها مع دول الناتو، وفي السياق اشتكت واشنطن من سلوك الطيارين الصينيين في بحر الصين الجنوبي، وعدم «احترافيتهم» في التعاطي مع طائرات الاستطلاع الأمريكية.
خلاصة الكلام
الذي يستفيد بشكل مباشر من تسميم وتوتير العلاقات الدولية، هو المجمع الصناعي العسكري، من خلال صفقات التسليح والمبالغ الخيالية المرصودة لها، وهي محاولة متجددة لشفط المزيد من الثروة العالمية، فهذا المجمع يعرف أكثر من غيره ما صنعت يداه، ويدرك أكثر من غيره عمق الهاوية التي يقف الاقتصاد الأمريكي على حافتها، ومستعد أن يوتر الوضع في كل مكان، حتى ولو كان في غرفة نوم المستشارة إيفانكا. وحتى لو أدى إلى مواجهة داخل البيت الابيض نفسه، باعتبار أن التوتير والحرب هو أداته الوحيدة، في تجنب انهيار المنظومة.
تبدو العملية ما يشبه انفلات المجمع الصناعي العسكري من أية سلطة، وخروجاً اضطرارياً عن سياسة الانكفاء إلى الداخل، بحكم محدودية الخيارات: زيادة الميزانية العسكرية، تفويض البنتاغون بالعمليات العسكرية في الخارج من حيث حجم القوات والميزانيات المخصصة، الاحتكاك المباشر بالقوى الصاعدة...ولكن هذا السلوك العسكري الاستفزازي لواشنطن، والاستفادة من أداتها الوحيدة المتبقية: فرط القوى العسكرية» يضع على طاولة البحث تناقضين جديدين مشتقين من الأزمة الرأسمالية العظمى، التي يتوقع الكثير من المراقبين تفجر جولة جديدة منها خلال الأشهر القريبة القادمة.
تناقض مع قوى السلم وبالدرجة الأولى في أوربا، ولعل ذلك يفسر التحولات العميقة في الوعي الاجتماعي الأوربي تجاه دور الولايات المتحدة، فأنصار سياسات الخروج من التبعية للولايات المتحدة هم الأغلبية في الانتخابات جميعها التي جرت في الدول الأوربية مؤخراً، والسعي إلى هذا الخروج بات قاسماً مشتركاً بين اليمين واليسار الأوربي.
المزيد من الانقسام بين واشنطن وحلفائها، وبين النخبة الأمريكية نفسها، فلا توجد منظومة إقليمية تابعة لواشنطن غير مهددة بالتفكك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 816