أمريكا تدير ظهرها للقارة العجوز..
يعلن ترامب غضبه على الصناعات الألمانية التي تغرق السوق، ويعلن الزعماء الأوروبيون استياءهم بل وجزعهم من نجاح حملة «أميركا أولاً» ومن «شعبوية وطيش» الرئيس الأميركي الجديد، ذاك الذي ينسحب بدوره من اتفاقيات المناخ في باريس، ويدلي بتصريحات تهز كل المؤسسات والتحالفات والاتفاقيات القديمة والجديدة، وأخيراً تقف ميركل لتقول بأنه على أوروبا الآن الاعتماد على نفسها، ويحاول الجميع البحث عميقاً عن أسباب «الخلاف الأوروبي- الأميركي»...
بالتأكيد هناك تناقضات حقيقية موجودة بين الأوروبيين والأمريكيين وتحديداً مع الولايات المتحدة بعد أن «انتخبت ترامب»، ولكن إذا ما نحينا قليلاً «غلاف الدول»، ونظرنا إلى القوى المتصارعة الفعلية، فإننا نرى القوى الاقتصادية المهيمنة في القارة العجوز ووليدتها الأمريكية التي أصبحت سيدة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية...
وإذا ما أردنا أن نبحث في هذه القوى فإننا سنجد الكثير من البيانات حول العائلات وأكبر الشركات، ولكن أيضاً ينبغي لتعميق وتبسيط الفكرة، علينا أن نزيل قشور رأس المال، وننظر إليه على أنه رأس مال ساع للربح بغض النظر عن نوع الإنتاج والمكان الجغرافي، متحالفاً على تنوعه في مسعاه لبسط هيمنة رأس المال العالمية، وتعميق الاستغلال، ومترصداً في الآن ذاته لمنافسة مرّة بين الحلفاء تزداد حدّة كلما ضاقت السبل وزادت المخاطر على المنظومة ككل.
أزمة تاريخية وليست جغرافية
هل نقصد أن الخلاف هو بين رأس المال الأمريكي، ورأس المال الأوروبي؟! قد يكون هذا جانباً من المسألة بطبيعة الحال، فرأس المال يتمركز في دول ويديرها ويوظف أدواتها وسلطتها بطبيعة الحال لمد أذرع هيمنته العالمية، فيرتبط مصيره بمصير هذه الدول المركزية وبمدى فشلها ونجاحها في إدارة الصراع لمصلحته، ولكن هذا ليس جوهر المسألة، بل جانباً من جوانبها فقط.
الخلاف الأميركي الأوروبي السياسي الحالي، يعكس خلاف مصالح قوى رأس المال العالمي، وتحديداً في منظومة المركز الغربي الرأسمالي، وتواجد هذه القوى ومصالحها لا ينقسم بالضرورة جغرافياً بين من هم في الولايات المتحدة، ومن هم في أوروبا، بل ينقسم بعمق على خيارات إدارة مرحلة التراجع الحتمي، الخلاف على من سيدفع الثمن الأكبر، في اللحظة التاريخية الحاسمة من عمر أزمة الرأسمالية.
انقسام رأس المال، والصراع السياسي الناجم عنه ليس جغرافياً، ولا أدل على ذلك من الحلفاء الأمريكيين للطرح الأوروبي وأعداء ترامب الداخليين العتاة، فالصف منقسم في مركز المركز الغربي، والأصداء تدوي قوية لدى الحليف الأوروبي المهلهل بأزمات عميقة، تتطلب أعلى مستوى من مركزية الإدارة، بينما ترامب يقول لهم: «أميركا أولاً»!
فما الذي نعنيه بالانقسام على خيارات إدارة التراجع؟! ولماذا لهذا تأثيرات كبرى على الاتحاد الأوروبي؟!
انقسام مركز المركز
للإجابة علينا أن نفكر بمركز الإدارة، أي بالولايات المتحدة الأمريكية، كدولة مجندة لقيادة حماية رأس المال العالمي، فعملياً وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل مركز إدارة رأس المال العالمي إلى الضفة الغربية للأطلسي، واندمجت أوروبا المعاد إعمارها برأس المال الأمريكي، واندمج الاقتصاد العالمي الرأسمالي، وتجارته الهائلة المتوسعة بعملة القيادة الجديدة الدولار، وتعهدت قوى المال العالمي على بذل ما تستطيع لإبقاء الولايات المتحدة قوة عسكرية ومالية ومؤسساتية تدير التحالف الغربي ثلاثي الأبعاد: الولايات المتحدة- أوروبا- اليابان، وتوزعت غنائم هذه العملية المضبوطة على الجميع، ولكن بالشكل الذي يبقى الولايات المتحدة في موقع الصدارة.
اليوم هذه القيادة التي تدير هذه المنظومة منذ أكثر من نصف قرن، تعلن انقسامها، وتختل مركزيتها. فكل قوى رأس المال الغربي العالمي تعلم علم اليقين، بالمتغيرات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العميقة، والتغيرات الاقتصادية والسياسية في الجديد الذي يولد شرقاً وجنوباً والذي خفض وسيخفض من معدل الاستغلال العالمي ومن النهب المنقول من شرق العالم وجنوبه إلى مركزه الشمالي الغربي، وهذا بدوره يزيد ويعمق حجم الأزمة الاقتصادية الرأسمالية. وهذه الحقيقة التي تعلمها الإدارة الأمريكية السابقة والحالية ليست موضع خلاف بين قوى رأس المال الغربي، بل موضع الخلاف هو كما قلنا سابقاً حول الأثمان المدفوعة وبين الأطراف التي تسعى لتقاذف الخسارة على بعضها البعض.
بين من ومن إذاً؟!
يمكن أن نقول إن الانقسام يتضح بين طرفين اثنين، الأول الذي يعبر عن نفسه بالإدارة الأمريكية الجديدة ويحاول أن يوصل الرسالة بصوت عال لقوى المال العالمي الأخرى، بأن الإدارة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع أن تستمر بالمعاندة العسكرية وبالخروج لحروب خسارتها هي خسارة كبيرة، والربح فيها لم يعد مضموناً لا سياسياً ولا عسكرياً، وتريد هذه القوى في لحظة الصراع الحالية أن ترسي دعائم لنوعٍ آخرٍ من المعركة السياسية مع قوى العالم الصاعد التي فرضت نفسها اقتصادياً وعسكرياً، أي تريد التفاوض في اللحظة الحالية علّها تكون أكثر قدرة على المواجهة السياسية.
وهناك طرف آخر من قوى المال العالمي يعلم أن التراجع والتفاوض في اللحظة الحالية، يعني تحميله الحمل الأكبر من الخسائر، خسائر من العيار الثقيل قد تكون خسارة أوروبا، أو حتى خسارة اليابان في الأجل المتوسط، وهذا بدوره يدفع قوى «الطرف الحربجي» لإدامة الاضطراب وعرقلة التفاوض العالمي، علّ هذا الطرف يحسّن من وضعه في داخل منظومة المال العالمية الغربية، ويحمّل بعض خسائره للطرف الآخر، أو ينجح «وهذا قد أصبح بعيد المنال» في الإضرار بالخصم الحقيقي، وتدمير القوى العالمية الجديدة التي تهز عرش منظومة الغرب المهيمنة.
أوروبا اليوم وقوى رأس المال المرتبطة بحكوماتها وببنية الاتحاد الأوروبي المؤسساتية، تتألم بعمق، لأن أزمة الديون في الاتحاد الأوروبي تحتاج لضمانات من الإدارة المالية والنقدية الأمريكية، وتحتاج لتغييرات هيكلية كبرى كمحاولة أخيرة لإنقاذ الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يمكن أن يتم بينما المركز المالي والمؤسساتي القائم في واشنطن منقسم، وسيكون الثمن اندلاع أزمة الديون الأوروبية، وخسائر سياسية كبرى لقوى رأس المال المهيمنة في أوروبا...
لا يمكن قراءة أي صراع سياسي اليوم، دون العودة إلى معطى الانقسام الأمريكي العميق، كتعبير عن أزمة رأس المال الغربي. ومن يتصارعون سياسياً مع ترامب في الاتحاد الأوروبي، هم أصوات طرف من أطراف الانقسام المالي الغربي الرافضة لإدارة الإدارة الأمريكية الجديدة ظهرها للأزمة الأوروبية، والمخاطرة بحليف من هذا الحجم. أما على الضفة الأخرى حيث دول وشعوب وقوى اقتصادية تحاول أن تحمي نفسها من زوبعة الانهيارات الاقتصادية وجنون المركز الغربي المتأزم، فإن كل خطوة هادئة نحو الأمام في التحالفات الاقتصادية الجديدة والتهدئة السياسية لمناطق التوتر، وكل زيادة في قوى الردع العسكري، هي خطوة استرداد لجزءٍ من الثروة العالمية التي كانت تسحبها هيمنة الغرب اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وهي خطوة تهز منظومة الربح العالمي شرقاً وغرباً، وتتيح فرصة للشعوب لخلق بدائلها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 815