ما بعد انحسار داعش..

داعش هذه «القيمة المنتجة مجدداً» في دورة الرأسمال النيوليبرالي، تم توظيفها واستثمارها في المشروع الغربي الإمبريالي، ليس لتبرير وجوده في المنطقة فقط، فهو موجود أصلاً، بل لاستخدامه كأداة بدائية متوحشة للدفاع عن هذا الوجوده المهدد في ظل مرحلة التراجع، بمعنى آخر، داعش لم تكن إلا أداة قذرة، للحفاظ على العالم القديم «النيوليبرالية المتوحشة» المتهالك والمهدد في وجوده، بمركزه وامتدادته الطرفية، ولعل ذلك سر محاولات الجميع للاستثمار في ظهور هذا الكائن الخرافي الطارىء، والجميع هنا، يشمل حتى بعض أولئك الذين يتموضعون سياسياً في موقع الضد الأمريكي في سياق الصراع الراهن، والذين كانوا بمعنى ما، امتداداً لمشروع اللبرلة في فترة «تألقها» بعد انهيار التجربة الاشتراكية.. فـدخل الكل على خط «محاربة داعش» من موقعه، ولغايته هو، والكل يتحارب أيضاً في نفس الوقت، واذا صعب على أحد فهم هذه المفارقة، فالجواب ببساطة، هو، أن سياسات العديد من القوى التي تحارب داعش الآن، هي التي أوجدت داعش أصلاً بعلم ودراية، أو بدونهما، و بمعنى اوضح، وبعيداً عن «نظرية المؤامرة»، فإن داعش هي المعادل الموضوعي لسياسات كل من سعى إلى لبرلة العالم !!
أوباما وداعش
يتذكر الجميع أن تقديرات النخبة الأمريكية كانت تقول، إن القضاء على داعش يتطلب عقوداً من الزمن، كما صرح الرئيس الامريكي السابق نفسه باراك اوباما، ولكن حدث وأن ذهب التنجيم الأمريكي أدراج الرياح، كما هو عليه في الغالب خلال السنوات الأخيرة، وتبين أن تحجيم داعش، وتقليم أظافره، ودفنه، أسهل مما حاول السيد الأمريكي وأبواقه فرضه علينا، بأن ليس لنا خيار سوى الانضمام إلى الحلف الأمريكي، كي نتجنب قطع رؤوسنا بسيوف داعش، شعوباً ودولاً وأنظمة، لتتحول إلى أداة ابتزاز أمريكية مباشرة، وضمن محاولة احتواء كل القوى، بما فيها المتنافضة في المشهد الإقليمي، وخصوصاً سورية والعراق.
تبين سنوات الحرب على داعش أن فترة تمدده تزامنت تماماً مع بدء التحالف الأمريكي الحرب عليه، ولكن بعد الدخول الروسي على خط المواجهة المباشرة، ضد تمدد داعش تغيرت المسارات والتموضعات، و لم يعد يسمح للولايات المتحدة بالاستفادة من وجود داعش، والاستفادة من محاربته في آن واحد، لتأخذ الحرب على الإرهاب طابعاً جديداً، وليس باعتباره أداة تحكم وسيطرة واحتواء.
روسيا وداعش
تميز الدخول الروسي المباشر بأنه ربط الحرب على الإرهاب، بالحل السياسي، ليضع الأول في خدمة الثاني، ومكملاً وداعماً له، فالحرب على الإرهاب، تستوجب منع انهيار الدولة السورية، والحفاظ على وحدة ترابها، ومنع انهيار الدولة يستوجب الحل السياسي بين السوريين.. وعلى هذا الأساس بدّل الطرف الروسي، السباق في استثمار وجود داعش، لتحقيق أجندات خاصة بكل طرف، إلى سباق في القضاء على داعش، وتسجيل الانتصار باسمه، أو التبرؤ منه، ولو إعلامياً...
انحسار نفوذ داعش مؤخراً، والضغط الدبلوماسي والعسكري الروسي باتجاه الحل السياسي، فرض على الطرف الأمريكي، تغيير تكتيكاته وأدواته، فاضطر إلى الدفع باتجاه «تحرير» مناطق جديدة من النفوذ الداعشي من جهة، ومن جهة أخرى زيادة وجوده العسكري المباشر في الميدان السوري، بحجج وأدوات مختلفة، وهذا ما يضع موضوعياً على بساط البحث، مصير المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش، وتم تحريرها؟
من نافل القول، أنه يجب إعادة هذه المناطق إلى سلطة الدولة السورية والسيادة الكاملة عليها، وإعادة مؤسسات الدولة بالسرعة الممكنة، وفتح الطرقات، ومنع الحواجز بمختلف انتماءاتها من فرض الخوّات، والإتاوات على السفر والتنقل، وإلا فإن تحرير هذه المناطق، يتحول بالفعل كما يسعى الطرف الأمريكي، إلى مناطق نفوذ مباشرة، وفرض أمر واقع جديد لا يختلف إلا شكلاً وتسمية عن فترة وجود داعش، بوظيفتها التي باتت واضحة وهي الإجهاز على بنية الدولة.

الحل السياسي مرة أخرى.
كان الحل السياسي قضية ملحة وضرورية منذ أن تحول الصراع على سورية وفيها إلى صراع مسلح، وإذا كانت الضرورات السابقة قائمة ومستمرة، فإن مرحلة انحسار داعش تضيف ضرورة أخرى، كي لا يتحول هذا المنجز الذي تحقق بفضل السوريين وحلفائهم إلى مجال استثمار أمريكي جديد، وتتسع هوامش واشنطن في المناورة واللعب على التناقضات القائمة مرة أخرى، ومن هنا فإن الشرط اللازم لاستكمال هذا الإنجاز وإيصاله إلى نهايته المنطقية، المتجسد بالحفاظ على وحدة الدولة السورية ووحدتها واستقلالها هو الإسراع بالحل السياسي، باعتباره البرنامج النقيض الوحيد لوظيفة داعش، وإلّا فإننا أمام داعشية جديدة، وإن كانت في غياب داعش.
ومما لا شك فيه، بأن حضور كل القوى العسكرية والسياسية السورية الراغبة بالحل السياسي، في مؤتمر أستانا وجنيف المقبلين، خارج فيتوهات التركي أو الأمريكي، هو شرط ضروري وحاسم لإنجاز مثل هذه المهمة، وتنفيذ القرار 2254 ببنوده كاملةً، ومراميه، بما فيها عملية التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل، ووضع ملامح سورية الجديدة.