الاستدارة التركية والحل السياسي والعقدة الكردية

الاستدارة التركية والحل السياسي والعقدة الكردية

كيف استدارت تركية، ولماذا استدارت؟ نعتقد أن الإجابة على هذا السؤال، مدخل ضروري، لفهم تطورات الأزمة السورية، على الأقل، منذ تجميد العمل باتفاق وقف الأعمال العدائية بين واشنطن وموسكو في أيلول الماضي، وحتى الآن، والأهم من ذلك فهم  احتمالاتها وجزء من تناقضاتها اللاحقة.

نعتقد أن الاستدارة التركية، تعود إلى عدة عوامل:
أولاً: دأبت الولايات المتحدة على التعامل مع حلفائها، كشركة استثمارية، يتوقف مستوى التعامل معها، على نسبة الريع، وإذا كانت فترة سيادة الهيمنة الأمريكية عالمياً تسمح، بمنح هوامش لـ «حلفائها» بالحركة ضمن مدى محدد، فإنه في ظروف التراجع الأمريكي بات هذا الهامش ضيقاً جداً، فالصراع مع القوى الدولية الصاعدة، بات يتطلب مركزية شديدة في القرار، لتوظيف القوى كلها لصالح المعركة مع الخصم الأساسي، مما دفع واشنطن إلى ابتزاز الكل، بما فيها دعم انقلاب عسكري ضد نظام حكم تابع، وبدرجة عالية من الوقاحة، تستفز حتى الموتى، فكيف بدولة ذات وزن جيوسياسي مثل تركية، وفي ظل حكومة من نمط خاص، ترك لها في ظل ظرف سياسي محدد مجالٌ واسعٌ للشغب على مستوى الإقليم، وتم تفويضها غربياً  بأن تكون المركز الإقليمي لما يسمى بالإسلام المعتدل، بمعنى آخر فإن الدور الوظيفي المرسوم لتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي انتهى.

ثانياً: التراجع الأمريكي، فرض على دوائر صنع القرار في واشنطن اتباع سياسة الاحتواء المركب، أي احتواء القوى المتناقضة كلها، وتوزيع الأدوار عليها، بما فيها ضرب هذه القوى مع بعضها البعض، ضمن استراتيجية الفوضى الخلاقة المعلنة، التي كان بالإمكان العمل بها، في ظل الاستفراد الأمريكي بالقرار العالمي، وغياب دور مراكز دولية أخرى، يمكن الاعتماد عليها والتنسيق معها من قبل دول الأطراف، ولكن مع بروز الدور الروسي – الصيني، وتشكل مركز دولي جديد، باتت الخيارات متاحة واقعياً للخروج من الخيمة الأمريكية.
ثالثاً: عِبْر التاريخ، كان التآكل من الداخل سِمةً ملازمة للقوى المأزومة والمتراجعة، ومع تأكيد تراجع الدور الامريكي عالمياً، كمركز إمبريالي عالمي، فإنه من الطبيعي أن تحاول العناصر الأخرى من البنية، البحث عن تموضع جديد، في شبكة العلاقات الدولية، بحكم تصاعد التناقضات الداخلية ضمن البنية المأزومة.
ويندرج في هذا السياق، دور العجرفة الأوربية تجاه تركية، وإغلاق الأبواب أمامها للدخول إلى النادي الأوربي، خلال عشرات السنين، وبشكل مهين، ومع تكون فضاء جديد في الشرق من شنغهاي إلى البريكس وجدت تركيا نفسها أمام حقيقة تاريخية فإما تبقى مستجدية للغرب، وتخرج من التاريخ، أو تحتل مكانها الطبيعي في الشرق المتكون مجدداً ببناه المختلفة.

بقي أن نقول في هذا الإطار: بأن تخلي المركز الرأسمالي الغربي، بشقيه الأوربي والأمريكي، عندما تطلبت مصالح نخبة رأس المال العالمي الاستثمار في هذا الفضاء الجغرافي السياسي بطريقة أخرى، والاستغناء عن خدمات الحليف السابق، والتي أحدثت صدمة لدى النخبة السياسية التركية، ينبغي أن يكون درساً، لأولئك الذين «يذهبون الى الحج والناس راجعة».

باعتبار أن الميدان السوري، أحد خطوط التماس الساخنة في الصراع، بين المركز الدولي المتراجع، والمركز الصاعد، بالإضافة إلى الاعتبارات الجغرافية، وانطلاقاً من الحقائق آنفة الذكر، كان من الطبيعي أن تبرز الاستدارة التركية في الأزمة السورية بهذا الشكل الواضح والسريع والمتدحرج، لدرجة دفعت حتى الولايات المتحدة التي خذلت حليفها التركي سابقاً، والمخذولة الآن من حليفها - الخذلان، بالخذلان والبادي أظلم - والمطرودة من الملعب، إلى الترحيب بالاتفاق. ولكن ماذا عن التناقضات التي تحيط بالواقع الجديد؟ ما الثمن الذي تريده تركية من هذه الاستدارة؟ وماذا عن التناقضات المزمنة في دول المنطقة، ومنها القضية الكردية، وهل ستتمكن روسيا من احتواء هذه التناقضات؟ وغيرها من الأسئلة المشروعة، التي تطرح نفسها على بساط البحث؟

ما ينبغي تثبيته في البداية، بأنه من السذاجة إيعاز التحول التركي إلى أخلاقيات أردوغان ونظام حكمه، فلا التخريب الممنهج، ودعم الإرهاب والصلف والرعونة التركية سابقاً كانت مسألة أخلاقية، ولا الاستدارة الحالية مجرد صحوة ضمير، بل الأصل في الموضوع هو: تناقض المصالح أو توافقها، مع القوى الصاعدة، التي أثبتت بالملموس قدرتها على فعل ما كان يبدو مستحيلاً بالعين المجردة!

 أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، قبل أيام ومن خلال مؤتمر صحفي، عن ثقته بإحقاق حقوق الشعب الكردي عاجلاً أو آجلاً، مؤكداً في الوقت نفسه: أن روسيا لن تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق، وأعاد الرئيس الروسي إلى الأذهان أن علاقات طيبة تربط روسيا دائما بالشعب الكردي.
 وذكّر بوتين، «بأن مصير الشعب الكردي معقد جداً، مؤكداً أن روسيا تلاحظ كل ما يحدث حاليا في الشرق الأوسط. وأشار إلى أن التشكيلات الكردية تبدي شجاعة كبيرة في الحرب ضد الإرهاب الدولي وتقاتل بشكل فعال جداً».
ما ورد على لسان بوتين، ليس جديداً، فروسيا خلال سنوات الأزمة، كانت تصر على ضرورة تمثيل حزب الاتحاد الديمقراطي في أية مفاوضات سياسية لحل الأزمة السورية، الأمر الذي يعني من جملة ما يعني، إن الحق الكردي يجب أن يكون مصاناً في سورية الجديدة، وجاء تأكيد الخارجية الروسية قبل أيام، على ضرورة التمثيل الكردي في مفاوضات «آستانا» المزمع إجراؤها لوضع خريطة طريق لتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بحل الأزمة السورية، تثبيتاً للموقف الروسي السابق، وتذكيراً به ضمن المعطيات الجديدة، وتناقضاً مع الموقف التركي الذي استمر حتى الآن بتصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي كمنظمة إرهابية على غرار (داعش) وجبهة النصرة، والسؤال كيف يمكن حل هذا التناقض، الذي ستعمل عليه القوى المعادية للحل السياسي لإجهاض التوافق الروسي التركي؟

عموماً، ينبغي التأكيد بأن الملف الكردي، يعتبر جزءاً من ملف الأزمة السورية، ولا يمكن الحديث عن حل حقيقي ونهائي للأزمة، دون أن يكون أحد مفرداته حل هذا الملف، وفي هذا السياق نعتقد بأن الإطار العام ، لحل هذا الملف ينبغي أن يحسم في أي لقاء دولي لتسوية الأزمة، ويجب أن ينطلق وضمن محصلة ميزان القوى الدولي، والإقليمي والداخلي الحالي من حقيقتين أساسيتين متكاملتين، لا يجوز تجاهل إحداها، لا بل إن تجاهل إحداها يعني حكماً نسف الأخرى، وهما:
الاعتراف بالوجود الكردي في سورية، وبحث مستوى هذه الحقوق وماهيتها على طاولة المفاوضات اللاحقة، وحكماً ضمن سورية الواحدة الموحدة.
عدم تحويل هذا الملف، إلى عامل توتير جديد للأزمة السورية، تحت أية ذريعة وحجة كانت، ليس لأن التوتير يتناقض مع المصالح الوطنية السورية فحسب، بل لأنه يتناقض مع نيل أي حق كردي أيضاً، حيث لا يمكن نيل أياً كان حقه في ظل وضع مضطرب مفتوح على المجهول.
ومن هنا فإن المطلوب: الضغط على الجانب التركي والقوى الأخرى، لتجاوز حالة الإنكار، والاقصاء، والعنجهية، المستمدة من مرحلة ما قبل التوازن الدولي الجديد، وضمن الأدوار الوظيفية المرسومة لتركية من قبل المركز الرأسمالي الغربي سابقاً.
وبالمقابل، مطلوب من القوى الكردية، الكف عن الإشارات السلبية التي تظهر بين الفينة والأخرى في الخطاب القومي الكردي، والمبنية في جانب منها على الجموح القومي، وأوهام الاستفادة من الوجود الأمريكي العسكري، فالنخبة الأمريكية التي انقلبت على أردوغان، بحكم ضعف المنظومة وتراجعها، باتت عمياء، ومستعدة أن تنقلب على جورج واشنطن نفسه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
791
آخر تعديل على الإثنين, 02 كانون2/يناير 2017 12:55