د. نايف سلوم د. نايف سلوم

قراءة نقدية في «ميثاق شرف» الشيوعيين السوريين في صياغة أولى

أولاً، يحق لأي قارئ لهذه الورقة أن يتساءل: ما المقصود ببيان شرف هكذا بالمطلق؟

هل هو ميثاق شرف وطني للشيوعيين السوريين، أم هو ميثاق شرف للشيوعيين السوريين فيما بينهم،  أم هو ميثاق شرف لليسار الماركسي بالعموم، أم ميثاق عمل وطني ديمقراطي يعني جميع القوى الوطنية والديمقراطية، أم هو دعوة فريق من الشيوعيين السوريين ضاقت بهم الأرض فراحوا يسعون لإنتاج حالة حزبية لحساب هذا الفريق المطرود والمحروم من «الرحمة»؟ الورقة تطلق التسمية هكذا من دون «أل» التعريف وكأنها تتقصد إثارة الالتباس.

مهما يكن من أمر فلنبدأ قراءتنا النقدية. يبدأ «ميثاق شرف» بالمديح الذاتي بدلاً من النقد الذاتي بالقول: «سجل الشيوعيون  السوريون خلال تاريخهم ملاحم ومآثر وإنجازات..» ويسأل سائل: وما هي هذه الإنجازات والمآثر، وما هي تلك الملاحم؟ هل خاض الحزب الحرب العالمية الثانية، ام قهر الفاشية الألمانية؟ كل ما في الأمر أن الحزب الشيوعي السوري عقد مؤتمره الوطني الثاني في بيروت 31/12/1943 و 1 ـ 2/1/1944 وكان ما يزال في وحدة مع الحزب الشيوعي اللبناني. وعقد مؤتمره الوطني الثالث، ,كان قد انفصل عن الحزب اللبناني في أوائل حزيران سنة 1969. وبعد المؤتمر الثالث وعلى أثر الخلافات التي ظهرت أثناءه حدث الانشقاق القطري الأول سنة 1974 الذي قاده وقتها عضو المكتب السياسي رياض الترك. ومع انعقاد المؤتمر الخامس 29 ـ 31 أيار 1980 حدث انقسام قطري ثان هو مجموعة «منظمات القاعدة» بزعامة مراد يوسف. ثم جاء انقسام يوسف فيصل سنة 1986، ثم آخر خروج من الحزب كان في بداية سنة 2001، وعلى أثر انعقاد المؤتمر التاسع للحزب 20 ـ 23 أيلول 2000 في دمشق. وقد تقدم هذا الخروج أو الإخراج عضو المكتب السياسي قدري جميل. وكما تلاحظون للوهلة الأولى فقد غابت كلمة وطني من الصياغة كصفة للمؤتمر بعد المؤتمر الثالث. في هذا المشهد المأساوي نرى الملاحم والمآثر والإنجازات على امتداد أكثر من ثلاثين عاماً من تاريخ الحزب الشيوعي السوري. كيف لقارئ أن يثق بميثاق كهذا إذا كانت البداية بالمديح وليس بالوقوف على الأطلال اقتداء بشعر «الجاهليين» العرب. فحزب يقضي نصف حياته من دون مؤتمر وطني، والنصف الثاني في «الاقتتال الداخلي» حسب «ميثاق شرف» ذاته، ومع ذلك يسجل الميثاق الملاحم والمآثر والبطولات. أليست هذه معجزة، أو تصديق مثل هذا الكلام يدخل في دائرة تصديق الخوارق. وربما هناك احتمال ثالث ألا وهو الاستخفاف بعقول كوادر الحزب الشيوعي السوري المنهكين من «الحرب الأهلية» الحزبية.

يتابع «ميثاق شرف»: «وإذا كانت الخلافات التي نشبت فيما بينهم (بين الشيوعيين السوريين) أساسها الموضوعي الذي ضاق حيزه اليوم، فإن العوامل الذاتية، وخاصة في القيادات، لعبت دوراً سلبياً في  تعميق الهوة فيما بينهم، مما زاد في تعقيد الأمور».

لم يذكر الميثاق طبيعة ونوع هذه الأسس الموضوعية، ولاطبيعة الشروط التي أدت إلى تضييق حيزها اليوم. لقد أشار الميثاق إلى دور القيادات كعامل ذاتي، أي كأخطاء وقعت فيها بعض قيادات الحزب في فترات معينة دون أن يلاحظ أن في مسالة دور القيادات بعداً موضوعياً تهرب منه الميثاق، وهذا البعد هو الطبيعة الطبقية، والأصول الاجتماعية والقومية لقيادات الحزب الشيوعي السوري تاريخياً وراهناً. وبغض النظر عن مسألة تحول الخطأ الذاتي إلى عقبة موضوعية لاحقة في سياق جدل الذات والموضوع، فإن الميثاق أخفى بحسن نية أو بسوء نية أخطر مشكل واجهه الحزب ويحتاج إلى مراجعة صارمة ألا وهو مشكل القيادات التاريخية للحزب وطبيعتها الاجتماعية والقومية. ومن طرائف العصر أن أصحاب «ميثاق شرف» هم جزء من هذه القيادات ذاتها التي يحق عليها قول المتنبي: «وأنت الخصم والحكم».

لكن لنعود إلى البداية، ونسأل: ماذا يعني «ميثاق شرف»؟ هل هو ميثاق يتم بموجبه الاتفاق والتعاهد على نقاط مفصلية ديمقراطية أو وطنية يدعو إليها الشيوعيون السوريون القوى الوطنية والديمقراطية الأخرى؟ أم هي دعوة لوحدة الشيوعيين من قبل فريق خارج من الحزب وهو في طريقه إلى بلورة حالة حزبية انقسامية جديدة بغض النظر عن شعار المجموعة الذاتي الذي يقول «لااستسلام ولا انقسام..» الصادر بتاريخ 9/1/2001 فإذا كان المقصود من الميثاق دعوة الشيوعيين السوريين للتوحد  ونبذ خلافات الماضي فلتتم الدعوة لمؤتمر  توحيد من دون ميثاق شرف. لأن الأيمان المعظمة لاتفيد في هذا المجال، فالمطلوب في قضايا كهذه إجراء مراجعات جذرية ومقنعة، والمبادرات بآليات جديدة. إضافة لذلك يطرح الميثاق شرطه الجوهري لوحدة الشيوعيين، وشرطه العمل الشيوعي وهو «الماركسية ـ اللينينية» دون أن يتفضل ويوضح لنا ما هي أسس الماركسية ـ اللينينية التي ما أن يحلف عليها الشيوعيون حتى يتوحدوا مباشرة بغض النظر عن أزمة القيادة!!.. أم أن المقصود بهذه الأسس هي كتاب ستالين «في أسس اللينينية» المنشور سنة 1924؟ عندما تطرح أساساً قد لايوافقك عليه حتى رفاقك أو بعضهم على الأقل فأنت تعاهد نفسك فحسب. وعندها يحق عليك القول: «اذهب أنت وربك فقاتلا». ويكون الأمر أمر برنامج عمل أو وثيقة برنامجية لك وليس ميثاق شرف لك وللآخرين .

نقرأ في الميثاق ثانية: «يجتمع الشيوعيون اليوم حول قضايا كثيرة، وهي اكثر بكثير من القضايا التي تفرقهم؟». إذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يجتمعون هذا من جهة، ومن الجهة الثانية، ماهي الأشياء التي تجمعهم، وماهي تلك التي تفرقهم؟ أم أن الميثاق يريدنا أن نصدق هكذا، أي يريدنا سريعي التصديق للخرافات والخوارق؟ وهل يقبل الميثاق على نفسه قراء سريعي التصديق على كل حال، سرعة التصديق مرض متفش في الحزب بكل فصائله نتيجة «حرص» القيادات على إبقاء الكوادر في جهل متعمد، بعيدين عن الوعي والحق والعلم بالتفاصيل، غير قادرين بذلك على الوقوف على حقيقة ما يجري داخل الحزب وخارجه. فقيادة الجاهل أقل كلفة!. وفي هذا السياق يمكن تفسير رهاب «خوف مرضي» الوعي عند قيادات الحزب، وهو ما يفسر أيضاً تخلفه النظري وخواءه الفكري.

يقول الميثاق: «القضايا الراهنة لا يمكن حلها أصلاً بقوى فصيل وطني لوحده، فكيف وقوانا متفرقة؟» هل يقصد الميثاق أن وحدة الشيوعيين السوريين الذين يعتمدون الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية، لو تمت، سوف تواجه المهام الوطنية الراهنة. وهل يعني هذا أن القوى الماركسية والشيوعية الأخرى في سورية التي لا تعتمد نفس الأساس ليست وطنية. وهل الوطنية حكر على حزب أو بعض حزب بعينه؟ فإذا كان الوطنيون أكثر من الشيوعيين وكانت الأسس الماركسية أكثر من الأسس الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية تكون دعوة الميثاق خاوية لا معنى لها.

نفهم أيضاً من عبارة الميثاق: «تاركين للحياة وللنقاش أن يحلا القضايا المختلف عليها سواء أكانت حول الماضي البعيد أو حول المستقبل البعيد» أن النقاش والمراجعة حول تاريخ الحزب من جهة وحول مسائل الماركسية المعاصرة متروكة إلى أجل غير مسمى! وأيضاً مناقشة «أسس الماركسية ـ اللينينية» هي الأخرى مؤجلة! وهكذا تعاد صياغة عبارة الميثاق كالتالي: «وإذا فعل الشيوعيون السوريون ذلك ( إذا لم ينجزوا تلك المراجعات ) يكونون قد ارتفعوا إلى مستوى مسؤوليتهم التاريخية». بعد ذلك يتحدث الميثاق عن وجود الشيوعيين كفصيل مناضل من أجل تحقيق الاشتراكية على امتداد القرن العشرين. هذا يعني أن النضال الشيوعي ليس معنياً بالمهام الديمقراطية ولا بالنضال القومي الديمقراطي!! ولكن هل يمكن أن تقوم الاشتراكية في أطراف النظام الإمبريالي الرأسمالي من دون النضال من أجل المهام الديمقراطية والقومية الديمقراطية، ومن دون تطوير برنامج ديمقراطي عضوي للعمل الشيوعي؟

يشير الميثاق وبالخط العريض إلى هناك «تقاليد عريقة في التعبير عن مصالح الجماهير الشعبية الواسعة والدفاع عنها» رسخها الشيوعيون السوريون. إن ما تم ترسيخه هو تقاليد كلامية، وهذا ما يقر به الميثاق بالقول: «وجعلتهم (الشيوعيين) في أحيان كثيرة يكتفون بالإعلان عن نواياهم دون دعمها بالممارسة اليومية». أيضاً نحن نثبت قول الميثاق من أن قيادات الحزب قد تميزت بالتخلف الفكري والانتهازية السياسية وبتهافتها على الامتيازات. ولكن هذا الاعتراف لايحل مشكلة الطبيعة الاجتماعية للقيادات التي تحتاج إلى دراسة مفصلة وجريئة. إضافة إلى ذلك يعود الميثاق ويدعو  هذه القيادات وكادراتها التي تربت في كنفها إلى الوحدة وعلى أسس «ماركسية ـ لينينية» غير مشروحة هكذا «من الباب للطاقة». أليست هذه مفارقة؟!

يطالب الميثاق أيضا «جسم الحزب» من دون رأسه بتجاهل حالة الترهل. وهذه مفارقة لأن الذين يدعون إلى «ميثاق شرف» هم من قيادات هذا الحزب تاريخياً، وهم ليسوا خارج أمراضه وأزماته وليسوا خارج مشكل الطبيعة الاجتماعية والقومية لقيادات الحزب الشيوعي السوري.

نؤكد على ما يعلنه الميثاق من أن الشيوعيين السوريين كانوا حلفاء مخلصين لتحالفاتهم وهم مستمرون على هذا النهج، بالرغم من إقرار الميثاق من أن أكثر من ثلاثين عاماً، وهي أعوام تحالف وإخلاص في هذا التحالف، كانت حافلة بالانقسامات. أليس الأجدر أن يكون الإخلاص للبرنامج، إذا كان هناك برنامج، والإخلاص للذات أيضاً قبل الإخلاص للتحالفات. وإذ يزاود الميثاق بقوله أن الشيوعيين «لن يكونوا عبئاً على أي تحالف إلخ...» فإنه يسوق ذاته تحالفياً.

يعرض الميثاق مسألة الديمقراطية داخل الحزب بالتجاور مع أزمة القيادة! وكأن أزمة الديمقراطية داخل الحزب ليست النتيجة الطبيعية لأزمة القيادة تاريخياً. بالتالي لا يمكن من وجهة نظرنا حل مشكل الديمقراطية الداخلية من دون التصدي بشكل حازم لمشكلة القيادات وطبيعتها الاجتماعية.

يؤكد الميثاق على أن مسلسل الانقسامات يجب أن ينتهي بإطلاق مبادرات متعددة الأشكال. مع أن الميثاق يحدد هذه المبادرات على «أسس ماركسية ـ لينينية» غامضة! وهو يدعو إلى مبادرات من «تحت» عبر لجان تنسيق، مع أن المبادرة، مبادرة الميثاق جاءت من «فوق»، من قيادات مبعدة ومعزولة. فالمبادرة لم تظهر قبل طرد تلك القيادات.

في دعوته الأخيرة وقبل أن يرفع الميثاق توصياته يتوجه إلى الشيوعيين السوريين «الرسميين» وكأنه ليس هناك من شيوعيين في سورية غير هؤلاء، وهو يدعوهم إلى بناء وحدتهم بالاستناد إلى كل التراث الثوري  الغني. مع أنه كان دعاهم من قبل وفي بادية الميثاق إلى وحدة على أسس ماركسية ـ لينينية. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ماالمقصود بالتراث الثوري الغني؟ هل هو الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية، أم التراث الثوري العالمي الذي هو أكثر من ستالينية، وأكثر من لينينية حتى، أم هو التراث المحلي للشيوعيين السوريين الرسميين، وهو تراث فقير مليء بالمفارقات؟

إننا إذ نقرأ هذا الميثاق قراءة نقدية فيها بعض القسوة فذلك ينبع من حرصنا على أن يتمكن رفاقنا الشيوعيون السوريون من تطوير ذاتهم وبناء مستقبلهم السياسي بصورة تجعلهم يساهمون بفاعلية أكبر في تطوير العمل السياسي والحياة الديمقراطية في سورية.

كما نؤكد حرصنا على مشاعر الرفاق الشيوعيين في قواعد الحزب والذين يشكلون الضحية الفعلية لمشكل القيادة المزمن. نقول أخيراً: إن ميثاقاً مبني على «أسس» كهذه الأسس لن يصدقه إلا كاتبه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
181
آخر تعديل على الأحد, 18 كانون1/ديسمبر 2016 16:31