وعي الحركة الشعبية وكسر الحالة الأبوية

تمتاز المرحلة الحالية من الحياة السورية بكونها حالة تأسيس للشكل الذي ستكون عليه سورية المستقبل، على الصعد كافة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والشكل المستقبلي للبلاد محكوم إلى حد كبير بكيفية التعاطي مع الحركة الشعبية، لإشراكها في إحداث تغييرات عميقة في المجتمع، آخذين بعين الاعتبار المشاكل المتراكمة في المراحل السابقة ، ولعل أحد أوجه هذه التغييرات يتمثل في رفض البالي من البنى الاجتماعية الأبوية القديمة العائدة إلى ما قبل الدولة الوطنية (العشائر، الطوائف، المذاهب، وجهاء المناطق...إلخ) والسير نحو شكل جديد أعلى يعبر عن تطلعات القوى الاجتماعية الجدبدة.

مع جلاء المستعمر الفرنسي شهدت سورية حراكاً سياسياً استمر طيلة العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، انخفضت فيه هيمنة البنى التقليدية على وعي المجتمع، واتجهت أطياف واسعة من المجتمع السوري إلى تنظيمات سياسية تعبر عن مصالح هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك، ومع تراجع الحركة السياسية وابتعاد الجماهير عن الأحزاب بسبب عجزها عن تلبية مصالح القوى الاجتماعية المختلفة، عادت البنى التقليدية القديمة إلى الحياة، بالأخص بعدما عملت أجهزة الدولة على تعزيز هيمنتها على المجتمع من خلال هذه البنى بإعطاء الامتيازات لأصحاب النفوذ فيها، فما كان من المجتمع إلا أن اضطر للجوء إلى البنى التقليدية كبديل عن الحركة السياسية التي بدأت تتغيب بالتدريج عن المشهد العام، وكأشكال تنظم المجتمع وتحميه وتحصل بعضاً من حقوقه في ظل انتشار الفساد، إلا أن تخلف هذه البنى واستعصاء تناقضاتها ولدا قناعة بشكل أو بآخر لدى فئات واسعة من المجتمع، وخصوصاً لدى الشباب، بعجزها عن تلبية مصالح الأغلبية، وهو ما تجلت تعبيراته بتراجع هيمنة هذه البنى، وانخفاض مستوى الثقة بها، ساعد على ذلك توفر الظروف الموضوعية للانتقال إلى أشكال أكثر تطوراً وهوالأمر المرجح حدوثه في ظل عملية التغييرالجارية موضوعيا.
في ظل الأزمة الراهنة سعت قوى المعارضة اللا وطنية (الممثلة بمجلس اسطنبول ومن لف لفها) لكسب أوسع شرائح المجتمع السوري من خلال استعادة الخطاب السياسي التقليدي والذي يعود إلى حقب قديمة، فما كان منها إلا أن عملت على إطلاق تسميات من نمط «جمعة العشائر» إلى جانب تأسيس مجلس العشائر في تركيا، محاولةً منها لاستنهاض قوى المجتمع، لتحقيق مشروعها الرامي لتفتيت سورية تحت ستار ((إسقاط النظام)) من خلال مكونات ما قبل الدولة الوطنيةّ، وهي بذلك لا تبتعد قيد أنملة عن مخططات القوى الغربية الهادفة لتفتيت المنطقة والعمل على إحياء الصراعات القديمة المرافقة لهذه المكونات، هذا من جهة، أما النظام من جهة أخرى فلم يتجاوز خطاب المعارضة برده عليها، بل استخدم الخطاب السياسي القديم ذاته، وذلك من خلال استضافة وجهاء وشيوخ العشائر وتنظيم المؤتمرات الجامعة للعشائر السورية، وتظهيرها إعلامياً في محاولة منه لتأكيد دعم هذه الفئات للنظام في مجابهة «المؤامرة»، وهو بذلك لا يختلف عن هذه المعارضة في ترسيخ البنى البائدة مع ما تحمله من إمكانية خلق شرخ في صفوف المجتمع السوري وإلهائه في تناقضات ثانوية لا ناقة له فيها ولا جمل..
لم يتمكن كلا الطرفين من التكيف مع الواقع الجديد الناشئ الذي ظهر فيه الحراك الشعبي معبراً عن نضج موضوعي سيطال تأثيره ليس البنى الاجتماعية فقط بل الاقتصادية والسياسية أيضاً ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انتماء الطرفين (نظام - معارضة) إلى الفضاء السياسي القديم قدم هذه البنى وهذا الخطاب الموجه نحوها..
لقد أثبتت الأزمة قصور الخطاب الراهن للقوى التقليدية عن مجاراة الوعي الجديد الناشئ، فتمرد الشباب على البنى السياسية والاجتماعية لايعني بأي حال رفضهم للتسييس والسياسة، فهم مقبلون على العمل السياسي لامحال، إلا أن تمردهم هذا هو تعبير عن رفضهم تحديداً للبنية الأبوية البالية والعاجزة والتي تتناقض مع مصالحهم ووعيهم، فقد كثرت الخلافات والتناقضات على الأرض بين الشباب والبنى التقليدية (في بعض الأحيان) حيث لم تعد هذه البنى تلقى أذناً صاغية تستمع لمشورتها ونصحها (وهو ما نلمسه في الواقع المجرب في بعض المناطق)، وهذا مؤشر يحمل من الايجابيات، من ناحية تقدم الوعي الاجتماعي، أكثر مما يحوي من السلبيات كما يظن البعض..
إن المراهنة من أطراف الأزمة السورية (نظام - معارضة) على جذب فئات واسعة من الحراك نحو طرفي الانقسام الوهمي (مؤيد - معارض)، من خلال العمل على ترسيخ وجود البنى القديمة على الساحة الاجتماعية والسياسية من شأنه أن يشوه ويعرقل طريق التطور الحقيقي نحو الجديد المستند على القيم الإيجابية في المجتمع السوري، وهو ما سيطيل فترة المخاض، مع ما يحمله هذا التأخير من رفع لتكاليف التغيير الجذري الشامل اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً والضروري بالمعنى التاريخي والموضوعي.