أين الحلول الحقيقية للأزمات السورية؟
تتفاوت الدراسات التي رصدت التكلفة الاقتصادية للأزمة السورية خلال العام 2011. ولكنها تذكر أرقاماً تراوح ما بين 20 ملياراً إلى 40 مليار دولار أمريكي! وهي أرقام صادمة حتى إذا أخذنا بحدّها الأدنى، الذي يعادل 12 ترليون ليرة سورية - إذا حسبنا الدولار بستين ليرة. وهذا يعني خسارة كلّ مواطن - من الثلاثة والعشرين مليون سوري - ما يزيد قليلاً عن نصف مليون ليرة سورية لكل مواطن وسطياً.
هذه الخسارة الباهظة كان يمكن تفاديها، لو جرى باكراً، منذ سنوات، تنفيذ خطوات للحل التدريجي للأزمات الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة منذ عقود، لكن بما أنّ التراكم المزمن أدّى إلى الانفجار الحاد، الذي كان متوقعاً، صار لا بد من المرور بمرحلة ضرورية، يتمّ خلالها التحضير الذي لا بد منه تمهيداً للحل الجذري.
إنّ التكلفة الاقتصادية للأزمة وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية في سورية لا يمكن فصلها بأي حال عن الأزمة العامة للنظام الرأسمالي العالمي، والتي هي أيضاً أزمة الرأسمالية السورية التابعة. فإذا كانت الطبقة الرأسمالية الإمبريالية ونظامها في أزمة عالمياً، فإنّ الطبقة الرأسمالية السورية (بنظامها ومعارضتها) أيضاً في أزمة.
جوهر الأزمة
بالتحليل العلمي (أي الماركسي) فإنّ الأزمات السياسية كقاعدة عامة ما هي إلا تمظهرات لأزمات اقتصادية-اجتماعية، وأشكال لصراع الطبقات الاجتماعية دفاعاً عن مصالحها المتناقضة. والأزمات الاقتصادية في عصر الرأسمالية هي أزمات فيض إنتاج، كانت دورية وتقاصر زمن دوريتها حتى انعدم وباتت أزمة فيض إنتاج دائمة بنيوية، وقد لاحظ ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أنّ ‹‹البرجوازية تتغلب على الأزمات عن طريق الإبادة العنيفة لمقدار كبير من القوى المنتجة، من ناحية، وعن طريق الاستيلاء على أسواق جديدة، والإغراق في استثمار القديمة منها، من ناحية أخرى.››
ولكن الاستيلاء على أسواق العالم رأسمالياً أُنجز واستكمل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لذلك لم يتبقّ لدى البرجوازية بعدئذٍ سوى تركيز جهودها على التدمير الوحشي للقوى المنتجة، الأمر الذي واظبت عليه بشتى الوسائل، من الحروب العسكرية المباشرة، والعمل على تخريب القطاعات الإنتاجية لدول العالم الثالث وخاصة الزراعة والصناعة، ونشر حزمة سياسات الإفقار الممنهج النيوليبرالية، والتي أدت إلى انخفاض نسب النمو، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتعميق الظلم في توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء.
من المفيد هنا أن نتذكر اكتشاف ماركس للعلاقة بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج:
‹‹ إنّ القوى المنتجة للحياة المادية هي التي تحدّد شروط عملية الحياة الاجتماعية، والسياسية، والفكرية بصورة عامة...
وعند بلوغ مرحلة معينة من تطورها، تدخل قوى الإنتاج المادية للمجتمع في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، أو مع علاقات الملكية - وليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك - والتي كانت إلى ذلك الحين تتطور ضمنها. فبعدما كانت هذه العلاقات أشكالاً لتطور القوى المنتجة، تصبح قيوداً لهذه القوى. وعندئذٍ ينفتح عهد الثورة الاجتماعية.››
بالفعل انفتح عهد جديد للثورة الاجتماعية، وبدت مؤشراته أكثر وضوحاً منذ الأزمة الاقتصادية التي دخلها الاقتصاد الرأسمالي المعولم في خريف 2008، وانطلاق الحركات الشعبية عبر العالم، التي تمثّل القوى المنتجة ضدّ علاقات الإنتاج القائمة التي تخدم القوى المستغلة غير المنتجة، ولكن لنتابع قول ماركس:
‹‹ أية تشكيلة اجتماعية لا تموت قبل أن تتطور جميع القوى المنتجة التي تفسح لها ما يكفي من المجال، ولا تظهر أبدا علاقات إنتاج جديدة أرقى قبل أن تنضج شروط وجودها المادية في قلب المجتمع القديم بالذات. ››
الأزمة السورية في طورها الحادّ الحالي، أو طور الانفجار، ما هي إلا نتيجة الأزمات المزمنة المتراكمة، إنها ‹‹أزمة الأزمات››، و يمكن أن نعزو جزءاً هاماً من ارتفاع تكاليفها إلى ضعف القوى المنتجة السورية بشقيها البشري (القوة العاملة)، ووسائل الإنتاج، نتيجة تباطئ تطويرها خلال الطور المزمن السابق، منذ السبعينيات بخاصة، مروراً بتوقفه مع بداية التسعينيات، وصولاً إلى تراجعه الكارثي خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وهي سنوات انتهاج الحكومات السورية للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية. وفي حال كهذه لا تلعب الهجمات العسكرية والاقتصادية والإعلامية على الدولة والمجتمع السوري - والتي يسطّح البعض مفهوم «المؤامرة» ويختزله فيها حصرياً - إلا الدور ذاته الذي تلعبه اللكمات على جسد مريض هشّ العظام.
المَخرج الآمن والحلّ الجذري:
إذا كانت سمة زمننا الحالي هو انفتاح عهد الثورة الاجتماعية عالمياً، بدليل اختلال ميزان القوى السابق دولياً، وإقليميا، فمم الخوف؟ وما هي الحالة الخطرة التي تتطلب مخرجاً آمناً منها محلياً في الظرف السوري؟
إنّ الخطر يكمن تماماً في معطيات الواقع التي تؤدي لاستمرار استنزاف القوى المنتجة، سواء عبر استمرار الاقتتال الأهلي، أو استمرار النهب الاقتصادي، لأنه يعرقل ترميمها، ثم تطويرها اللاحق، وصولاً إلى الحلّ الجذري، المتمثل بقيام هذه القوى بالتغيير الثوري لعلاقات الإنتاج لمصلحتها.
من هنا فإنّ كلّ من يعمل على استمرار الاقتتال الأهلي، ويرفض الحوار السياسي، في أي طرف كان، إنما يعمل فعلياً - عن قصد أو غير قصد - على مزيد من التدمير لقوى الإنتاج السورية، أي تدمير القوى الوحيدة القادرة بتطورها على القيام بالتغيير الثوري التقدمي الحقيقي. من يفعل ذلك إذاً ليس ثورياً، بل هو عدو الثورية، وذنب الرجعية. هذا ينطبق على جزء هام من القوى في النظام والمجتمع والمعارضة والقوى الدولية والعربية. وبالمقابل في المعسكر الثوري الحقيقي، توجد الحركة الشعبية السلمية المتنوعة المطالب، رغم استقطاباتها المؤقتة الخاطئة، بوصفها أصلاً صاحبة المصلحة لأنها في جوهر قوى الإنتاج (هي بحد ذاتها العامل البشري فيها)، مع القوى السياسية والاجتماعية التي تحمل برنامج تنميتها وتحقيق مصالحها.
وهكذا فإنّ الحلّ الآمن بالمعنى الاستراتيجي للكلمة لا يمكن أن يقتصر على مخرج آمن فحسب، بل لا يمكن فصله أيضاً عن تصوّر اقتصادي-اجتماعي واضح برنامجياً لأية قوى سياسية تطرحه، ومحدد الاتجاه جذرياً نحو تطوير القوى المنتجة، وتنميتها، الأمر الذي بات مستحيلاً دون تغيير نمط توزيع الثروة ليصبح لمصلحة المنهوبين، وعلى حساب الناهبين. ذلك أنّه توجد إمكانية لمخرج آمن من النوع المؤقّت، فإيقاف قطع الأعناق لا يضمن تلقائياً إيقاف قطع الأرزاق. وبالتالي لا يضمن العودة إلى قطع الأعناق، ولو بعد حين!