هل يمكن الحكم على الحركة الشعبية في خطواتها الأولى؟

شرت صحيفة قاسيون في تاريخ 332012،في العدد 542 الصفحة13، مادة بعنوان«حراك شعبي.. وسفارات خمس» للكاتب عيسى المهنا تناولت بشكل أساسي ما أنتجه الحراك الشعبي سياسياً في البلدان العربية في(مرحلة الانفجار العربي الكبير مختصراً بمشهد اليوم الذي انطلق من تونس مروراً بكل من مصر وليبيا واليمن والبحرين وصولا إلى سورية 1532011)، الإقتباس للكاتب الذي قدم في بداية مقاله تحليلاً موجزاً للواقع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، ولطبيعة الأنظمة في بلدان العالم الثالث الناشئة في ظل التوازنات الدولية الناشئة بعد الحرب، بين الطرفين المنتصرين فيها، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، محدداً محطات أساسية في تاريخ أنظمة بلدان الأطراف وانقسامها بين المعسكرين المنتصرين ..

 يشير الكاتب إلى عيوب ومثالب جدية في الحراكات الشعبية العربية، كاللجوء إلى العنف والتسلح، ورفع الشعارات الفئوية والطائفية المتطرفة، وظهور الانقسامات على أساس المكونات ماقبل الدولة الوطنية، المذهبية والطائفية والقبلية والعشائرية...ألخ، وتزايد حجم التدخلات الخارجية سياسياً وعسكرياً، ويتناول الكاتب بشكل أساسي صعود الإسلام السياسي والقوى الإسلامية المتطرفة، ووصولها إلى السلطة في جميع البلدان التي شهدت الحراك الشعبي، بواسطة العنف كما في ليبيا، وعبر البرلمانات، المباركة دولياً،كما في تونس ومصر والمغرب، وحتى عبر الدساتير كما في سورية التي قرأ فيها الكاتب ذلك عبر الدستور الجديد بمادته الثالثة، والتي تحدد الإسلام كمصدر تشريع أساسي للبلاد، وتحدد دين رئيس الجمهورية بالإسلام، وهي المادة التي من الواضح أن الكاتب يراها جوهر الدستور الجديد، وهذا ما سنناقشه لاحقاً بالتفصيل، أما بالنسبة للإشارة الواردة في عنوان المقال «السفارات الخمس» فلا يوجد ما يشير إليها في متن المقال سوى الحديث عن السفارات الإسرائيلية الجديدة في ليبيا وجنوب السودان، وتثبيت السفارات الإسرائيلية في مصر والأردن وموريتانيا، والمكاتب المشتركة مع إسرائيل في الخليج والمغرب، التي يوحي الكاتب من خلالها بأنها واحدة من النتائج المحصودة للحراكات العربية، إلى جانب ماسماه تهيئة (الأرضيات الميدانية لإنشاء دويلات دينية في مصر واليمن والسعودية وسورية...) بما يعنيه ذلك من إمكانية نشوب الصراعات الداخلية وتغييب قضية الصراع الأساسية القضية الفلسطينية..
على الرغم من أننا نتفق مع الكاتب في بعض ما شخّصه من إشكاليات نشأت على خلفية انطلاق الحراك الشعبي في البلدان العربية، إلا أننا نختلف معه في المقابل حول الزاوية التي ينظر فيها إلى تلك الإشكاليات، فهو يعالجها معالجة سكونية على مستويين الأول: زماني من خلال إعتباره إياها نهائية ومنجزة معلناً بداية نموذج سياسي جديد بالملامح العامة التي رسمها، وغير آخذ بعين الاعتبار استمرار الاحتجاج الشعبي على النتائج السياسية السلبية الحاصلة حتى الآن والتي ستحصل، واستمرار تشكل الوعي السياسي الجديد لدى الجماهير، الثاني: مكاني من خلال رؤية الأحداث جزئياً في منطقتنا فقط، وعدم رؤيتها كظاهرة عامة أصبحت تعم العالم بأسره شيئاً فشيئاً  حتى وول ستريت في الولايات المتحدة الأمريكية القوى الأكبر دولياً، والتي ترزح تحت وطأة أزمتها الاقتصادية المستعصية، الأمر الذي صار يُنبئ بأن الأزمة ليست أزمة نظام عربي بعينه يقبع في العالم الثالث، بل هي أزمة شاملة وعامة لنظام رأسمالي عالمي تتعمق باطراد، وهي في طريقها إلى طورها الاجتماعي الشعبي في العالم بأسره حتى لو كانت بدايتها في المنطقة العربية..
ثبّت الكاتب المظاهر الملتبسة فقط من حراك الجماهير، وما ظهر من السلبيات الكامنة على مدى عقود في المجتمعات العربية من تخلف سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي...ألخ، ذلك التخلف نراه عابراً ومؤقتاً أمام ثورة في الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي بدأت ملامحها سياسياً مع انطلاق حراك شعبي عفوي في طريقه إلى وعي ذاته، وهذه عملية طويلة ستستمر لعقود لا يمكن الحكم عليها سلباً في بدايتها، لذا سنعمد إلى تثبيت الجوانب المضيئة لحراك الجماهير وإن كانت قليلة..
 
نقطة انطلاق

يحدد الكاتب عاملين يحكمان الواقع العربي اليوم، يهمنا الأول منهما  (صراع المصالح العالمية الكبرى) وهذا في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على الساحة الدولية، الأمر الذي مهد (... الطريق لصراع جديد غربي إسلاموي ظهر بأقصاه في أحداث 11 أيلول 2001» توحي هذه الصورة بوجود حالة صراع غربي إسلامي قبل أحداث 11ايلول كانت ذروته في تلك الأحداث، ولا نعلم من هو الطرف «الإسلاموي» قبل تلك الأحداث؟ ولكن على أية حال فإن هذه الصورة هي تماماً الصورة التي يقدمها الغرب، الأمريكي تحديداً، عن نفسه إعلامياً، والتي يبرر من خلالها حروبه التي شنها ويشنها في مناطق مختلفة من العالم بذريعة «الحرب على الإرهاب» بينما هي في حقيقة الأمر حروب تستهدف، إما السيطرة المباشرة على النفط والطاقة والثروات الطبيعية والتحكم بأسعارها عالمياً  واستمرار تسعيرها بالدولار، أو السيطرة على مناطق ذات أهمية استراتيجية بغية محاصرة الاقتصادات الصاعدة في الصين وروسيا، لذا كان لابد من الاستعانة بالأصدقاء القدامى في تنظيم القاعدة، رفاق الحرب السابقين ضد «السوفييت الكفار»، للقيام بتمثيلية أحداث 11 أيلول، الأمر الذي مهد الطريق في الحقيقة لإطلاق تهمة جاهزة هي تهمة الإسلام التكفيري للأعداء الحقيقيين للمشروع الأمريكي في منطقتنا على وجه الخصوص، في محاولة لطمس التناقض الرئيسي دولياً، بين قطب الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقطب الشعوب بمقاوماته السياسية والعسكرية المختلفة في مختلف البقاع الساخنة، بدءاً من منطقتنا وحتى أمريكا اللاتينية، التي وإن كان بعضها إسلامياً - في منطقتنا- إلا أنها حتماً ليست كتنظيم القاعدة...
وفي ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية للرأسمالية العالمية وانعكاساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على الشعوب يزداد التناقض الجديد بين القطبين حدة، ويتسع أكثر فأكثر ليتجاوز ساحات الصراع الدبلوماسي والعسكري ليصل إلى الجماهير في مختلف ميادين التحرير التي ثارت على عقود طويلة من الديكتاتورية واللبرلة الاقتصادية والفقر والبطالة والتهميش وعمالة الأنظمة للغرب، في مشهد جديد ما زال قيد التطور على الرغم من بعض نتائجه الأولية المخيبة لآمال الجماهير..
لذا لا يمكن الحديث عن صراع المصالح الدولية الكبرى دون أخذ أزمة النظام العالمي السياسية والاقتصادية بعين الاعتبار، بما يعنيه ذلك من تقدم القطب المقابل قطب الشعوب، وما سينشأ من حركات سياسية شعبية متوافقة معه...
 
الانفجار الكبير

شخّص الكاتب طبيعة الاختلال الذي نشأ بين رأس الهرم وقاعدته في نموذج الدولة السابق، في البلدان التي شهدت الحراك الشعبي، والذي أنتج رد فعل مفصلي وجدي من القاعدة حتى رأس الهرم نتج عنه انفجار انعكس (سقوطاً في تونس ومصر فاجأ حتى الحلفاء التاريخيين)،وتدخلاً عسكرياً في ليبيا، وتحركاً خليجياً في اليمن والبحرين، أما في سورية ذات السياسات الخارجية المختلفة عن بقية البلدان، والتي أخذ الحدث فيها بعداً إقليمياً ودولياُ بسبب ذلك، كانت (الاستجابة  لهذا التحول من أعلى الهرم بسرعة وجدية، فتراجعت ردات فعل القاعدة...) بناء على حجم التنازلات المقدمة ما أدى إلى (استجابة مساحات واسعة من المعترضين والمتضررين لهذا التجاوب... الذين دخلوا من نافذة السياسة التي أجبروا النموذج القديم على فتحها) وأصبح الصراع السياسي في سورية بين أطراف متعددة بعد أن كان بين رأس وقاعدة وخرج جزء كبير من المحتجين السلميين من الميدان ولم يبق سوى«القوى البربرية في الميدان» التي سيرد وصفها على لسان الكاتب بعد أسطر.
من الواضح أن الكاتب يستقي بعض تحليلاته من الإعلام الخارجي الناطق بالعربية تارة، فيما يتعلق بتونس ومصر، ومن الإعلام السوري الرسمي تارة أخرى، فيما يتعلق بسورية!!
ففيما يخص تونس ومصر يكفي القول إنه لم يسقط أي من النظامين حتى الآن، بل إن الذي سقط هو الرئيس في كل من البلدين، وهذا حدث بالتشاور مع الحلفاء التاريخيين في خطوة كانت تستهدف امتصاص الاحتقان الشعبي مع الإبقاء على الأنظمة في البلدين، إلى أن يتم تجهيز البديل المعتمد غربياً، كالإخوان والسلفيين..
أما بالنسبة لسورية، فإذا كان المقصود بالإستجابة السريعة من أعلى الهرم- أي من القيادة السياسية للنظام- حزمة الإصلاحات التي أعلنت بعد أيام من انطلاق الاحتجاجات، فإن هذه الإصلاحات ماتزال حتى الآن إعلاناً اسمياً  ولم تنعكس على الأرض فعلياً، وخصوصاً في ظل غياب الحل السياسي تقريباً على مدى عام كامل، اللهم إلّا انعقاد اللقاء التشاوري ببنوده ال14 التي لم تنفذ حتى الآن، واعتماد الحل الأمني البحت ضمن عقلية أن الإصلاحات ستطبق بعد إنجاز الحسم الأمني على الأرض، الأمر الذي يجعل الحسم الأمني مستحيلاً في ظل لجوء المزيد والمزيد من المدنيين إلى السلاح، واحتضان أحياء بأكملها للمسلحين بعد فقدان الثقة بصدقية النظام في الإصلاحات نتيجة غياب الحل السياسي الشامل الذي يشكل الحل الأمني الدقيق والمدروس جزءاً منه ومكملاً له، أو حتى عدم تطبيق بنود اللقاء التشاوري...  
فكيف يمكن للمعترضين السلميين أن يدخلوا من نافذة السياسة التي لم تفتح حتى الآن؟ ماذا يمكن أن يعني هذا الافتراض؟ سوى أن الجزء الوطني والسلمي من الحركة الشعبية والمعارضة ليس له وجود، كونه دخل نافذة السياسة الافتراضية، وأخلى الميدان «للقوة البربرية»، لماذا لا يجوز لأصحاب الخيار السياسي أن يتواجدوا بالميدان؟
أما القوة البربرية فيشير الكاتب إليها في هوامش المقالة بأنها (القوى الغرائزية الهائلة لشعب فتي والتي لم تصل إلى حدود التعقلن، لذلك فإن عدم تقليمها عقلانيا يمكن أن يؤدي إلى فعل دمار)..
أي تفسير دراماتيكي يطلقه الكاتب لظاهرة السلاح والتسلح؟
إن هذا التفسير في أحسن أحواله يتجاهل القوى الاقليمية التي دفعت وتدفع إلى التسلح، حتى منذ قبل الأحداث، ويتجاهل دور قوى الفساد داخل النظام في تمرير السلاح، ويتجاهل دور السياسات الليبرالية التي أنتجت شرائح مهمشة بالجملة قابلة للتسلح، ويتجاهل دور العنف بحق المظاهرات السلميةالذي دفع بشكل أو بآخر بهذا الإتجاه..
 
شبح الإسلام السياسي..

يستعرض الكاتب مطولاً وصول القوى الإسلامية الجديدة في البرلمانات التونسية والمصرية والمغربية، وبالسلاح والتدخل العسكري في ليبيا، أما في سورية فـ ( تماثلت الحالة بأدوات أكثر عصرية عبر إقرار دستور ينفصم شكله عن مدنية الدولة بعد أن تم إقرار المادة الثالثة منه عبر لجنة بربطات عنق مدنية إسلاموية بامتياز...) هذا ما يراه الكاتب، الإسلام هو جوهر الحكم الجديد في المنطقة؟ الإسلام فقط لا غير؟
بعد هذا التعميم  ينسب الكاتب موضوع السفارات الإسرائيلية في مصر والاردن وموريتانيا، وولادة سفارات إسرائيلية في جنوب السودان وليبيا، إلى القوى الإسلامية الجديدة، هذا بالإضافة إلى التوترات الطائفية في مصر فيما يخص الهجرة المتزايدة لأقباط مصر، وممارسات حزب النور السلفي الأصولية، ثم سيناريوهات التقسيم في كل البلدان آنفة الذكر، كلها ينسبها إلى العام الذي انطلق فيه الحراك..
لن نختلف مع الكاتب حول تاريخ العمالة الطويل للغرب الذي مارسته وتمارسه القوى الإسلامية المذكورة، الحركة الإخوانية تحديداً، في مصر وتونس وليبيا والمغرب،ولكن أن تتم المطابقة بين هذه القوى والحراك الشعبي فذاك ما سنختلف عليه كثيراً، وخصوصاً أن الكاتب نفسه يشير في مقاله إلى مئات ملايين الدولارات الغربية التي أنفقت على تلميع صورة الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة، فلا يمكن الحكم بتلك الطريقة على الحراك، الطريقة التي تربط بين بعض الإشارات الإسلامية الصادرة عن الحراك الشعبي كجزء من موروث المنطقة التاريخي،وبين الإسلام السياسي بأبشع صوره السياسية والاجتماعية التي سبغها الغرب عليه..
بالعودة إلى السفارات الإسرائيلية، نتساءل: ألم تكن موجودة تلك السفارات في ظل الأنظمة السابقة؟ هل حكومة سلفاكير في جنوب السودان هي من قوى الإسلام السياسي؟ لماذا لم تفتتح السفارة الإسرائيلية المزمع إفتتاحها في ليبيا حتى الآن؟ هل لأن المجلس الانتقالي لايتمتع بقدر كاف من العمالة؟ أم لأنه يحسب ألف حساب لردات فعل الشعب الليبي؟
 والسؤال الأهم أليست قوى المقاومة الإسلامية المختلفة في فلسطين ولبنان والعراق من القوى الإسلامية السياسية؟ هل يمكن الطعن بوطنيتها؟ 
ليس الغرض من طرح هذه الإسئلة تبرئة ساحة الإسلام السياسي أو غيره وطنياً، بل الغرض هو إعادة تقييم القوى السياسية على أساس مواقفها الوطنية والديمقراطية والاقتصادية- الاجتماعية، وليس على أساس الخوف من المرجعية الإيديولوجية لشبح موهوم هو شبح الإسلام السياسي، يمكن للجماهير الإطاحة به في جولة ثانية من جولات إسقاط أنظمة القمع والتخلف والنهب والعمالة؟؟
 
الدستور الجديد نموذجاً

أما في موضوع الدستور الجديد في سورية والذي يراه الكاتب قد صنع دولة «إسلاموية»، على الرغم من أننا ضد المادة الثالثة بالدستور الجديد، لكن لنسأل السؤال البسيط التالي: ألم تكن المادة الثالثة موجودة في الدستور القديم؟ هل كانت دولتنا «إسلاموية»؟
إن الخلط الذي يقع فيه الكاتب ناتج عن كونه يعتبر المادة الثالثة جوهر الدستور الجديد، في حين أن جوهر الدستور الجديد هو المادة الثامنة الجديدة التي تقول بأن النظام السياسي يقوم على أساس التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة بالإقتراع العام، في بلد يحظر فيه قيام الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو على أساس التمييز في اللون والعرق والجنس، وفقاً لقانون الأحزاب، إذا هل تلك الأحزاب الخاضعة لتلك المعايير والتي ستشكل النظام السياسي الجديد في سورية ستصنع دولة دينية؟
إن محاكمة الحركة الشعبية من خلال نتائج لم تصنعها هي، بل صنعتها الأنظمة الدولية والمحلية الساعية لامتطائها هو ظلم مجحف لا يستند إلى أي أساس علمي، لأن الحركة الشعبية لم يصنعها أحد بل صنعتها الظروف الموضوعية، ولأن الحركة الشعبية تعبر عن درجة نشاط سياسي عالٍ في أوساط الجماهير الشعبية، وهي تتسم بطابع موضوعي محدد، ولها خاصية دورية محددة، وهي على الرغم من طابعها العفوي الذي يشف عن الكثير من العيوب ونقاط الضعف إلا أنها في حالة حركة متصاعدة وفرز مستمر، وهي في تطورها تبلور حركة سياسية منظمة تعكس موازين قوى جديدة تنبثق منها حركة ثورية تسعى إلى التغيير العميق في علاقات الإنتاج ونمط توزيع الثروة، لذا لا يجوز التعامل معها كحالة عابرة ومؤقتة لأنها ستستمر لعقود.