الحراك، والبنية الطبقية للمجتمع السوري
يتغنى البعض بالحراك الشعبي في سورية الذي رصدت فضائيات المال حتى عشراته المنتفضين في أقاصي الريف السوري، ويعدون هذا دليلاً على اتساعه بطريقة صورية، تقوم على اعتبار أن الحراك قد شمل جميع المحافظات السورية وحتى قراها التي لم يرصدها الإعلام الرسمي المتخلف سابقاً في أي من مناسباته الرسمية..
لم يحاكم هؤلاء الحراك العفوي في سورية بموضوعية، فاتساعه من اتساع موطن ولادته وهو الريف السوري الواسع، حيث يولد من رحم الريف ويحمل من سمات البنية الفلاحية الكثير، وهو ما يجعل التوسع الجغرافي متناقضاً مع التوسع النوعي، فعلى الرغم أن مستوى التأزم للنموذج السوري السابق والحالي المتمثل بالنظام السوري، وبنيته قد أصبحت متناقضة ومعيقة لتطور كافة الفئات والشرائح الاجتماعية في سورية، إلا أن هذا لا يبعدنا عن استنتاج الطابع الرئيسي للحركة الشعبية، لا بل يجعله ضرورة لتحديد سماتها والنظر بعين موضوعية نقدية لاستعصاءاتها وآفاق تطورها.
فلاحو سورية ومهمشوها
توصيف «النموذج السوري الاقتصادي والاجتماعي» يهدف منه إعطاء خصوصية لحالة تاريخية هي نتاج حركة التحرر الوطني، ذات طابع برجوازي صغير، أتاحت ظروف دولية وخصوصيات سورية، استمرارها دون تغيرات صادمة حتى العقد الأخير، ولكن خلال هذه المدة كانت الانحرافات تسري بما يتناسب مع البنية المكونة، ومع التراجع العام لهذه الحركات. شكل فلاحو سورية القاعدة العريضة الداعمة لهذا النموذج، وكان الإصلاح الزراعي بداية مكتسبات عديدة وخط تطور لهذه الفئة الاجتماعية الواسعة، إلا أن الثمار الأولى التي حصلها الريفيون، انعكست بأعمق ظواهر التشوه مع ازدياد تراجع النموذج، حيث منع الانتقال نحو الثورة الزراعية الجذرية في سورية، تطور بنية الريف، وأعاق تجاوز العقلية الفلاحية العامة للمجتمع السوري، نحو عقلية أكثر تطوراً، وأكثر قربا للعقلية البروليتارية، لا بل تم تعميق التخلف بترك الريف بعيداً عن نقلات نوعية في طرق إنتاجه، ودفعه باتجاهين أولهما الهجرة نحو المدن وتشكيل حالة التهميش، وثانيهما تشوه الريف المنفتح شكلاً، تحت ضغط البحث عن مصادر الرزق الأخرى، والمتقوقع ضمناً في مكوناته الأولى، التي ربطت الريف بتشوهات الفساد بالغالب. فرّغت البنية الفلاحية تدريجياً من سماتها الإيجابية، وحل مكان البساطة والتكافل الانحلال الناتج عن الفقر والتخلف، وهو ما يفسر أن البنية الفلاحية المهملة والمسلوبة الكرامة والثائرة حالياً، لم تستطع بعد وهي في القرن الحادي والعشرين أن تحقق تقدماً يذكر عن طابع الثورات الفلاحية السابقة، فبقيت رهينة لميلها العام للتسلح، وللعقلية الثأرية التي تمتاز بسهولة حرفها ودفعها للتطرف، والدخول في التناقضات الثانوية، والطائفية هي شكلها السوري، وهو ما يطبع حتى الآن الحراك الشعبي في سورية بطابع هذه البنية، فهو من حيث تركزه بدأ ويستمر ويشتبك في الريف السوري، أو في إطارات التهميش التي مد الريف المدن السورية بها وهي العشوائيات حيث يتكثف تشوه البنية الفلاحية المهجرة قسراً والخاضعة لظروف التخلف والانحلال بأقسى أشكاله.تتمنع هذه البنية أمام العمليات الجدية لتجاوزها، على الرغم من اشتراك الفئات الواسعة في سورية من طلبة ومثقفين وحركات سياسية قديمة ضمن هذا الحراك، إلا أنها كلها لم تستطع أن تحقق خطوة إلى الأمام، إلا بانفصالها عن الحراك مضموناً، وانضمامها شكلاً، أو بتقديس حالة الحراك والسير وراءه بعقلية تبريرية انتهازية.فيميلون إلى توصيف الكتلة الصامتة وكيل الاتهامات إلى مدن وفئات لم تشارك الحراك الشعبي الموضوعي في صراع مرير أدخلوه به، فيفرزون الشارع إلى مؤيد ومعارض مدخلين أغلبية السوريين التي لم تشارك في دائرة مؤيدي السلطة، متجاهلين موضوعية حالاتهمم وكونهم يحتوون على الرغم من تبايناتهم على العنصر الرئيسي الغائب عن الحراك السوري حتى الآن وهو الحركة العمالية التي لابد تتداخل مع بنية الحراك، إلا انها لاتوجد فيه ككيان معبر عن نفسها وعن مصالحها، أو لم تتبلور بعد لأخذ دورها الطبيعي في قيادته وإنضاجه.
العمال
خرجت شرائح واسعة من فلاحي سورية من بيئتها الفلاحية، إلى المدن في عملية متوازنة وطبيعية خلال مرحلة تشكيل وتوسيع جهاز الدولة في سورية، حيث احتوى بمؤسساته الواسعة المنتجة والخدمية والإدارية، الوافدين الجدد من أرياف سورية وجامعاتها، وورشها، ليشكلوا الطبقة العاملة السورية، أو مايصح تسميتها بالعاملين بأجر، حيث تختلف البنية العمالية السورية، بناء على طابع القطاع، وموقعه من جهاز الدولة، ومستوى انجازه، فما بين عمال القطاع العام المنتج، وما بين القطاع الخدمي وما بين العمال في القطاع الخاص، فروقات تلعب دوراً في ذهنية ودور الطبقة العاملة في التغيير في سورية، يتقدمهم عمال القطاع العام الإنتاجي، ممن خاضوا تجربة نجاح مؤسساتهم، وشاهدوا تطورها خلال مراحل معينة، وشهدوا أيضاً عملية تراجعها العفوي والممنهج، ودور الريع السياسي في تغطية عيوبها، وشهدوا عمليات الفساد والتدهور التدريجي، وهم بالنهاية من هددت مصالحهم الحقيقية ومصادر رزقهم، بالدعوات الأخيرة نحو تصفية هذه المؤسسات وخصخصتها، وهذا ما يجعل من هؤلاء الفئة الأكثر جذرية بالبنية من بقية الفئات حيث يتقاطع دفاعهم عن مصادر رزقهم، مع الدفاع عن عصب الاقتصاد الوطني، وعامل تماسك وضمان المجتمع السوري، وتشوب موضوعية هذه العملية شوائب تتعلق بالبنية السياسية السابقة التي ربطت نقابات العمال مع جهاز الدولة، وبالتالي مع عمليات الإفساد وأعاقت تطورها المستقل، ضاغطة كل منفس للتعبير عن التدهور الحاصل، وللدفاع عن مصـالح العمال، وعن هذه المؤسسات الهامة، إلا أن الضرورة الموضوعية ومستوى التهديد دفع نحو الخطوات الاولى لتجـاوز هذا الواقع، وظهر هذا تحديدا مع رفع شعـار الخصخصـة، ووقوف النقابات كـأحد العوائق أمـام سير الحكـومة السابقة بهذا الاتجاه.
يقف جميع العاملين بأجر في سورية داخل جهاز الدولة، في الموقع نفسه، على مسافات متباينة، من حيث ارتباط مصالحهم بمصالح وطنية عامة، إلا أن هذا هو السمت العام، أو محصلة لبنية تعيقها أيضاً معالم الإفساد والطفيلية الطابعة للحركة العمالية بطابع النموذج السوري الذي أصبح مكيفاً مع مصالح الفساد وأولوياته، حيث أعاق الريع السياسي اعتماد النمو الداخلي للمؤسسات كمحرك للنمو الاقتصادي، محولا كثيرا من مؤسسات الدولة وخاصة الخدمية منها إلى غرف تستوعب «موظفي الدولة»، وتحولهم إلى هامشيين، مفرغة مفهوم العمل من جوهره كذلك مفهوم العلاقة مع الملكية العامة، وانعكس هذا في تعميم ثقافة الفساد كمصدر رزق مشرعن ومعوض عن تدهور مستوى المعيشة، كل هذا عمل ويعمل على قطع إمكانية تطور ذهنية هذه الفئات نحو جذرية الطبقة العاملة، ومع تراجع الريع السياسي انكشف مستوى التدهور، وبدأت عمليات تقليص دور هذه المؤسسات، حتى أصبحت وظيفة الدولة في المرحلة الأخيرة نتاج عمليات سمسرة مع الفاسدين ومورد نهب، يبتز حاجة السوريين إلى ضمانة العلاقة مع الدولة، في وقت توسع البطالة.
أما القطاع الخاص المزدهر في سورية في زمن التراجع الاقتصادي، يشغل أعداد كبيرة في بنى تتراوح من الورش الصغيرة إلى مؤسسات وشركات كبيرة يعاني عمالها من ضغوط عالية يدل عليها متوسط الدخل المنخفض في القطاع الخاص، حيث يتيح مستوى البطالة الواسع والتضخم العالي، مع قطاع الدولة المتراجع، وانحياز البنية السياسية في المرحلة الأخيرة لحماية مصالح أرباب العمل، على الرغم من نشاطات مطلبية لعمال القطاع الخاص إلا أن ظرفهم ومستوى تنظيمهم يبقى عائقا في وجه صياغة مطالبهم والضغط لتنفيذها.
لا تزال البنية العمالية في سورية هشة نسبياً، وتجربتها النضالية في العقود الأخيرة معدومة، ولم تستطع أن تحقق حتى الآن خطوات جدية نحو تجاوز الإطارات التنظيمية المحصورة التي وضعت سياسياً بها، وهو ما يعود إلى مرحلة لعبت الضمانات والمكتسبات التي تتيحها العلاقة مع جهاز الدولة، دوراً في إعاقة وعي الدور السياسي الوطني للحركة العمالية. أما الآن يزداد وضوح الارتباط السياسي الاقتصادي الوطني، فالقطاع العام المنتج واستحقاقاته تجعل من عماله خصوصاً، وعمال جهاز الدولة عموماً في ارتباط عضوي مع قضايا وطنية ملحة أهمها محاربة الفساد المهدد الأساسي لمصدر رزقهم والطفيلي الذي يعيش على تدهور مؤسسات الدولة ويعيق تطويرها وإعادتها لأصحابها الحقيقيين.
لا بد أن هذه المهمة واضحة لدى عمال سورية وهم محركها الموضوعي إلا أن أدواتهم وتجربتهم والبنية السياسية التي أرضت تطوير النضال المطلبي والسياسي، أعاقت تطوير الجذرية العمالية وهو ما تتيحه الحالة الثورية الحاضرة وتسرع من وتائره إلا أن البنية الفلاحية للحراك الشعبي تعيق دخول هذه الفئات ضمن الشكل الحالي، وتجعل أمامهم مهمة أخرى هي إعادة صياغة خط الحراك الشعبي بشكل مباشر أو غير مباشر، قد يحصل الحراك العمالي بعيداً عن الشارع مستخدماً أدوات سياسية أكثر تطوراً، وشعارات أكثر موضوعية ونضجاً، فيدخل الشعار الاقتصادي الاجتماعي، مساهماً في إعادة السكة نحو مطالب جذرية وبعيدة عن التطرف في نفس الوقت، أهمها إعادة توزيع الثروة، من خلال ضرب الفساد، وسيدفع نحو تأريض السلاح أو العمل على ضرب بنية الدولة، مساهماً في إزالة الغباشة التي تضعها عوامل الانقسام الوهمية، كالطائفية وغيرها.