من ... وما الذي أنتج ظاهرة التسلح؟
يدرك الجندي المتمرس أن البنادق لا تقتل الناس، بل الناس هم من يقتلون الناس. كما يدرك أيضاً أن البنادق تختلف باختلاف حامليها..
يتعرض الحراك المطلبي لشعبنا السوري العظيم في الوقت الراهن لخطر حقيقي و كبير يتمثل بالمظاهر المسلحة التي كانت دخيلة على طابعه العام و أضحت سمة مميزة تحدد في بعض المناطق أقساماً كبيرة نسبياً من صفوفه..التاريخ يعلمنا _كعادته_ أن عسكرة أي حراك اجتماعي سياسي هي المسمار الأول في نعشه والخطوة الأولى على طريق فنائه ونهايته..وغالباً انتهت أعظم الأفكار بسيوف حامليها عن قصد أو غير قصد..هنا لا أقصد أن أنتقد الحركة الثورية المسلحة التي تمثل الانعكاس النهائي لسنوات وسنوات من النضال السياسي الاجتماعي السلمي والترجمة الأخيرة لانتصار الفكرة الثورية والتي تكون بالضرورة محدودة الانتشار والمدة وقليلة الدماء ومعبرة عن النقلة النوعية في وعي المجتمع ككل، ولكني أعني بشكل خاص ذاك السلاح المُشَوَه المُشَوِه لحركة وسمعة الشارع...
إن لجوء بعض الأطراف للعمل المسلح هو دلالة على اختناق طرحها السياسي وانفضاض الشارع وجماهيره عن هذا الطرح، بعد اكتشاف خيانته
لقد أثبتت الوقائع الملموسة في سورية أن العمل المسلح يفقد الحراك الشعبي مضمونه السلمي ويعزز حالة الاستعصاء القائمة بين أطراف النزاع المتعددة،ويبعد شرائح شعبية واسعة عن الانخراط بالفعل السياسي الاجتماعي ويفكك بناها. ويعطي المبرر لأجهزة السلطة التنفيذية على القمع بتفعيله لانتماءات ما قبل الدولة الوطنية وإبرازه للتناقضات الثانوية من طائفية وعشائرية وقومية وإحلالها مكان التناقض الأساسي بين الناهب و المنهوب،فإذاً العمل المسلح يقطع التطور الطبيعي لحركة الشارع ويحرفها عن مسارها الضامن والضام، وهو بمجمله ذو تأثير سلبي على الحراك الشعبي ولكن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه هل كل المسلحين هم خونة قابضون للحركة الشعبية وبالتالي للوطن؟!وهل جميعهم حملوا السلاح للأسباب نفسها؟ وهل تتشابه أهدافهم ورؤاهم ودوافعهم؟وهل يجب التعامل معهم بالعقلية نفسها واعتماد ذات الحلول في اجتثاثهم؟
في سورية هناك ثلاثة أشكال واضحة للعمل المسلح خارج نطاق المؤسستين الرسميتين العسكرية والأمنية.
النوع الأول هم المسلحون الموالون الذين ينضوون تحت لواء النظام ويتحركون بأمر مراكز الثقل الفاسدة داخله وخارجه، ويدعون حمايته وحماية الوطن، لكنهم ينفذون أجندة أسيادهم الفاسدين، لهم وظيفة محددة هي محاصرة فكرة الحل السياسي التوافقي و إبعادها، وتعزيز المظهر الصدامي في الوعي الجمعي للمواطنين وعلى الأرض،عملهم هو توتير الأجواء ومنع أي فرصة للحوار من أن ترى النور،هم عبارة عن ميليشيات فساد تحشد وتجيش لفكرة القضاء على الحركة الشعبية عن بكرة أبيها بصالحها وطالحها و إعادة الوضع السوري إلى ما كان عليه قبل انطلاق الحراك في 15-3-2011،بمعنى آخر محاربة أي محاولة للإصلاح أو التغيير بهدف حماية أسيادهم من المحاسبة الشعبية و الحكومية،هؤلاء بمجملهم هم أصحاب سوابق و محترفو تهريب ونهب وجدت قوى الفساد فيهم جهازها التنفيذي الخاص و قوتها الضاربة، القضاء عليهم يتطلب قراراً سياسياً رفيع المستوى لمحاربة رؤوس الفساد التي تمدهم بالسلاح والهيبة وتبرر وجودهم وفعاليتهم في محاربة ((المؤامرة)) والقضاء على مراكز الثقل فيها داخل جهاز الدولة وفي المجتمع ثم لجم جماح هذه الميليشيات أمنياً وشعبياً.
النوع الثاني هم المسلحون المرتبطون الذين يدعون أنهم جنود الثورة الأوفياء وحماتها البواسل، لقد سموا أنفسهم بأسماء جذابة أكثرها شهرة (الجيش السوري الحر)، قسم منهم طائفي والقسم الآخر مأجور والقسم الأخير طائفي ومأجور بالوقت نفسه، والجامع بينهم أنهم جميعهم مرتبطون بدول عدوة أجنبية و عربية هي التي أدخلتهم إلى سورية بالتعاون المأجور مع قوى الفساد ضمن جهاز الدولة وخارجه عن طريق هيئات معارضة تستقر في الخارج (كمجلس اسطنبول)، معظمهم تلقى تدريبه في مناطق ((جهادية)) كأفغانستان والعراق ونهر البارد و إسرائيل، ثم جاؤوا ليمارسوا جهادهم المزعوم في شوارع مدننا وقرانا، يسلحهم الغرب بأحدث الأسلحة وأقدم الأفكار، ويوجههم الغرب كذلك ليمارسوا حروبهم المقدسة المأجورة ويوجهوا ضرباتهم ضد جيشنا العربي السوري -المؤسسة الوحيدة الضامنة للوحدة الوطنية- وضد المؤسسات الحكومية والعمومية وضد المواطنين، عملهم كان في البداية رفع مستوى الدماء والسعي لتدويل الأزمة واستجرار التدخل الخارجي العسكري في وطننا سورية بالقضاء على سلمية الحراك وجر الجيش العربي السوري إلى نزال مستديم وعالي العنف ساحته سورية ومتاريسه أهلها، نزال يظهر جيشنا الوطني بمظهر الجزار،وينشر في صفوف الحراك دعوات الحماية الدولية والأغطية الجوية والممرات الآمنة التي تنال من سيادة الوطن ووحدته ومن أهداف الحركة الشعبية بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمقاومة وتلغي حصيلة عام كامل من النضال المطلبي،و الآن لم تختلف أهدافهم كثيراً إلا أن فشل محاولات استجرار التدخل الخارجي دفعتهم إلى زيادة وتيرة هجماتهم بهدف رفع مستوى الدماء و القضاء على أي احتمال للمصالحة الوطنية بين السوريين،وزجهم في صراع طويل الأمد يضعف منعة الوطن ويفضي إلى تقسيمه،وبالتالي يصبح تحقيق أهداف أسيادهم الأجانب أكثر سهولة،هؤلاء يجب التعامل معهم بكل حزم واستئصالهم تماماً وبدقة،لكن هذا لن ينفع إلا بشرط أن يرافق هذا الحل الأمني الجراحي حل سياسي شامل وسريع يهدف إلى تحقيق مطالب الشعب في المستويين الاقتصادي والاجتماعي ومحاسبة كل من أضر واستهان وأجرم بحق هذا الشعب من قوى النظام أثناء الأزمة وقبلها،وتقديمه إلى العدالة و تخفيف الضغط الأمني عن المواطنين وتوجيهه نحو مراكز الفساد، إن تزامن المعالجة الأمنية والمعالجة السياسية هو السبيل الوحيد للقضاء على هذا النوع من المسلحين المرتبطين وبيئاتهم الحاضنة.
النوع الثالث من المسلحين هم المسلحون الإنفعاليون،
لقد أدت المعالجة الأمنية العنيفة التي مارستها أجهزة السلطة بحق الاحتجاجات الشعبية السلمية إلى جانب سنوات طويلة من النهب المنظم لقوت ومكاسب الفئات الشعبية إلى ظهور صنف من المسلحين يختلف عن الصنفين السابقين بأسبابه وأهدافه وطابعه العام..
،قسم كبير من هؤلاء المسلحين استغل الأزمة الحالية ليعبر عن غضبه وحنقه على القوى الفاسدة في النظام التي احتكرت موارد عيشه وجردته من مقومات إنتاجه و مارست عليه أشد سياسات الاستغلال الاقتصادي،بحجة الليبرالية المنشودة،هؤلاء كانوا في البدء حامل الظل للحركة الشعبية السلمية أي أنهم حتى ولو أنهم لم يشاركوا في المظاهر الاحتجاجية عند انطلاقها إلا أن قلوبهم كانت معها لأن فكرة التغيير عبرت عن مصالحهم و آمالهم، لقد واجهت قوى الفساد المظاهرات الاحتجاجية التي انخرط فيها هؤلاء -قبل أن يصبحوا مسلحين- بالقمع و العنف وكان الرد الطبيعي والمنطقي منهم هو العنف المضاد، هؤلاء لم يمول الغرب تسلحهم ولم تحضهم براميل النفط الخليجية على العصيان، بل قسوة واقعهم وانعدام سبل توعيتهم وتسيسهم ما دفعهم لحمل السلاح، هم سكان الأرياف والعشوائيات الذين حرمتهم قوى الفساد من فرصة التعلم وتطوير الذات وحولتهم إلى فحم تحرقه بهدف النهب وزيادة الأرباح، كثيرون منهم خسروا أخاً أو أباً أو إبناً أو صديقاً عندما أطلق الأمن الرصاص على المتظاهرين العزل، كثيرون منهم دوهمت بيوتهم بحجج وبغير حجج، وكثيرون منهم أقسموا على ألّا يلقوا السلاح حتى يردوا ثأرهم واعتبارهم، الحل الوحيد هو بمنحهم ما يريدون، محاسبة من نهبهم طوال سنين و من قتلهم منذ بدء الأزمة، إعادة حقوقهم المستلبة من أباطرة المال والتجارة في النظام وخارجه و محاسبة الأجهزة التي أطلقت النار على أبنائهم، تغيير عقلية التخوين في التعامل معهم، هؤلاء وحسب من التجربة الملموسة يمكن التحاور والتفاهم معهم ضمن حل سياسي شامل، يوفر لهم الأمان، ويحفظ كرامتهم، ويعاقب من بطش بهم، ويقنعهم بأن تغييراً حقيقياً وجدياً قد بدأ، هم ... أبناء ما كانوا ليضلوا لو كان الأب سوياً...!