لا بد من المكاشفة أولاً - (1 من 2)

في العدد 156 من جريدة «قاسيون» الصادرة في 9 آب 2001 لفتت انتباهي الافتتاحية «لماذا التشتت والتبعثر ضمن الأحزاب». ومن خلالها عرفت أن الأحزاب المقصودة هي الأحزاب السورية، وخصوصاً أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ويبدو أن الحزب المعني بالدرجة الأولى هو الحزب الشيوعي السوري بكافة أجنحته. أرغب في التعليق على هذه الافتتاحية على أمل من هيئة التحرير نشره:

تشير الافتتاحية إلى أسباب التشتت في هذه الأحزاب السياسية، ويعيدها إلى عوامل أساسية أصوغها على طريقتي بإيجاز وهي:

1 ـ القوى الخارجية التي سعت وتسعى إلى النيل من الموقف السوري الوطني، من خلالا إضعاف الأحزاب الوطنية.

2 ـ القوى الداخلية المؤلفة من البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية التي سعت إلى تمزيق هذه الأحزاب الوطنية بهدف إزاحتها من أمام توجهاتها الاقتصادية والسياسة والاجتماعية (خصوصاً نهب الدولة والشعب والوطن عامة).

3 ـ النزعة الذاتية المفرطة لدى قيادات هذه الأحزاب والسعي إلى السيطرة على مقاليد السلطة التنفيذية في الحزب (خصوصاً التنظيمية والمالية).

لا أريد التطرق إلى كافة الأحزاب السورية، وإنما سأتوقف عند الحزب الشيوعي السوري ـ جناح خالد بكداش ـ المعني بالافتتاحية على ما أعتقد.

مع موافقتي على العوامل السابقة والتي لعبت دوراً ما في تمزيق وتشتيت الحزب الشيوعي السوري، أو لنقل تحويل الحزب إلى أجنحة متعددة، ولازال النزيف متواصلاً بطرق مختلفة، هناك سؤال كبير يطرح نفسه: ألم يكن العامل الخارجي أكثر نشاطاً ضد الحزب الشيوعي السوري في الأربعينات والخمسينات والستينات؟ ألم تكن القوى الداخلية من أجهزة الدولة والقوى اليمينية تسعى مادياً ومعنياً إلى نسف الحزب الشيوعي من جذوره؟ وأخيراً ألم تبرز عندئذ بهذا الشكل أو ذاك ، نزعات ورغبات وأعمال ملموسة من قبل هذا القائد الشيوعي أو ذاك للولوج إلى الأعلى والتأبد فيه؟ ورغم ذلك كله بقي الحزب الشيوعي السوري موحداً وقوة تتنامى على التربة الوطنية لغاية السبعينيات.

إذا أردنا البحث الجاد في التحليل الديالكتيكي لكشف كل الأسباب الشاملة لمأساة الحزب الشيوعي السوري، والخروج برؤية موضوعية تستطيع لم شمل البقية الباقية من الشيوعيين السوريين، أنى تكن مواقعهم الراهنة، وفتح الطريق أمام الجيل الشاب لاحتلال مواقعه بين صفوف المناضلين في المسار الشيوعي، فلا بد في البداية من المكاشفة أمام الشعب والوطن، وبالدرجة الأولى أمام التاريخ ، والخروج من تلك النرجسية المتخلفة التي تدعي الصواب المطلق وتجريم كل ما عدا ذلك على الصعيد الشيوعي خاصة. من منا، أفراداً أو مجموعات يتجرأ أن يقف أمام الشعب ويقدم تقييماً صادقاً عما قام به خلال وجوده في الحزب الشيوعي السوري، وخاصة عندما كان في المراكز القيادية أو مازال. أعتقد أن الانطلاقة الجريئة تبدأ من هنا. فالشعب السوري أدار ظهره للحزب الشيوعي السوري، سواء اعترفنا بهذه الحقيقة أم لا. وأعتقد أن كل من كان في فترة من الفترات قيادياً في هذا الحزب ، خصوصا ًمنذ السبعينات، يعرف هذه الحقيقة التي كانت مكشوفة على اللجان المركزية المتتالية وعلى اللجان المنطقية في المحافظات. ألم يكن الخط البياني لمسير الحزب يسير إلى التراجع من مؤتمر إلى مؤتمر؟ وماذا كنا نفعل لإيقاف هذا التدهور؟

تقول الافتتاحية: « فما إن ينتهي حزب من الأحزاب من صراع داخلي يستنزف فيه قواه ويمنعه من التوظيف حول مهامه الرئيسية وخاصة الوطنية، حتى يبدأ الطرف المنتصر بكرة جديدة من الصراع ...» أتساءل اليوم هل كان ذلك انتصاراً ؟ أم أن (المنتصر) كان يعاني الهزيمة أكثر من المهزوم؟.

تعالوا نراجع مصطلحاتنا التي كنا نقاتل بها بعضنا بعضاً ، وحتى اللحظة الراهنة ، ألم تكن بعضها مختلقة لضرورات المعارك الداخلية؟ لو أخذنا بعض الأفراد القياديين والذين كانت لهم أدوار بارزة في المعارك الحزبية الداخلية هنا أو هناك ، ألم يتحول بعضهم من يساري إلى اشتراكي ديمقراطي وبالعكس، ومن ماركسي لينيني في التنظيم إلى تبرير التكتل ضد التكتل، متجاوزاً بذلك كل التراث اللينيني، انطلاقاً من متطلباته الشخصية والسعي إلى المواقع الأعلى، بما في ذلك موقع الأمين العام ؟ ألم يجر توزيع المواقع الحزبية على الأزلام قبيل المؤتمرات؟ ألم يجر اتهام البعض بالعمالة للأمن للتخلص منه؟ ألم .. وألم ...وألم.

لماذا نريد التستر على الحقائق المأساوية، ونحصر أسباب واقع الحركة الشيوعية في سورية بالأسباب المذكورة أعلاه فقط. هناك أسباب أخرى أكثر أهمية ، أولها ابتعاد الحزب رويداً رويداً عن الطبقة الكادحة، وجماهير الشعب منذ ابتلي بآفة الأزمات. وكان يجري التستر على هذا الابتعاد بالاختفاء وراء التحالف والجبهة الوطنية.

عندما كان الحزب ملتصقاً بالكادحين و الجماهير الشعبية، كانت هذه الجماهير تضع الحزب كله والقادة كأفراد أما مهام جليلة تمنع الاختراق الخارجي بكل أنواعه وتضعف عندها تلك الذاتية المفرطة للأفراد. كانت العلاقة الحميمية مع الجماهير تطهر نفوس هؤلاء القادة من رذالاتهم الراهنة.لو أخذنا أكبر انتهازي اليوم ونظرنا إلى ماضيه، ألم يكن مناضلاً عن جدارة، وكان لديه الاستعداد للتضحية بالنفس من أجل الوطن والشعب والكادحين والحزب؟ إن السر في هذا التحول هو تغير اتجاه العمل من الجماهير إلى السلطة، وبالتالي إلى داخل الحزب وتشعبات المراكز الحزبية القيادية ذات المنفعة الشخصية. لماذا لا نريد الاعتراف أن الجبهة الوطنية التقدمية، رغم كل جوانبها الإيجابية وضعت الحزب وغالبية القيادات المتتالية للعمل باتجاه السلطة والابتعاد عن الجماهير عملياً، بالرغم من الجمل الرنانة في مدح الجماهير والتشدق بها في الوثائق الحزبية والخطابات العامة. ألا نجد في خطابنا الشيوعي السوري لغة التعالي على الجماهير واتهامها بقصور إدراك سياسة الحزب «المبدئية والصائبة»؟

إن القارئ المتمعن في وثائق الحزب وأدبياته ، خصوصاً جريدة «نضال الشعب» ومجلة «الطليعة»، ولاسيما في الخطابات العامة والمقابلات الصحفية، ألا يجد كيف جرى ويجري تغطية الابتعاد في الدفاع عن مصالح الجماهير الشعبية، وحقوق المواطنين، والسير بخطى بطيئة أحياناً، ومتسارعة أحياناً أخرى نحو اليمين، بالمديح الساذج للجبهة الوطنية التقدمية، وتضخيم هذا المديح لدرجة إرهاق الرفاق بمجرد التفكير في إبداء ملاحظات جادة على وضع الجبهة المأساوي. مع العلم أن الأحاديث غير الرسمية لكل القياديين دون استثناء، بما في ذلك أكثرهم مدحاً للجبهة الآن، كانت تقر بالوضع المأساوي للجبهة.                                                            (يتبع)

 

* صالح بوزان