مع تصاعد هستيريا الاستعداء والاستعلاء والهيمنة الأمريكية: الرهان.. على المقاومة المتصاعدة للشعوب

وسط تطورات دولية عاصفة ترتبط خيوطها لدى واشنطن التي لا تستثني في ضغوطها أحداً، لم تُخفِ المصالحة الفاترة التي شهدتها باريس بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وفرنسا، على خلفية تباين مواقف البلدين سابقاً من الجانب الشكلي في العدوان الأمريكي على العراق، حقيقة استمرار التنافس الإمبريالي بين جانبي الأطلسي وتقلبه صعوداً وهبوطاً، تجاذباً وتناقضاً،

بحسب تطور الأوضاع الميدانية العالمية، ولكن دائماً على حساب الشعوب الأخرى، وهي مصالحة كان ثمنها المباشر موافقة ما كان يسمى بمعسكر الخيار السلمي والشرعي الدولي، فيما يتعلق بموضوع الحرب على العراق، على مشروع القرار الأمريكي البريطاني الإسباني «المعدل» القاضي برفع العقوبات عن العراق، أو بالأحرى بتشريع الاحتلال الأمريكي البريطاني لبلد مستقل وعضو في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة أوبك والمؤتمر الإسلامي وغيرها، القرار الذي أخذ الرقم 1483، تحت ضغوط أمريكية ودون أن يحضر مداولاته في مجلس «الأمن الدولي» أي تمثيل عراقي.

العراق: «ولاية أمريكية ما وراء البحار»

وفي ظل انتشار مخاوف دولية من أن وضع واشنطن يدها المباشرة على النفط العراقي وضخه، بغض النظر عن ادعاءاتها بخصوص توظيف عائداته لإعادة الإعمار، سيسمح لواشنطن بالتحكم بآليات عمل المحاصصة الإنتاجية داخل منظمة أوبك لجهة الضغط على الدول الأعضاء لخفض إنتاجها، وما أن صدر القرار «الدولي» المذكور الذي يطلق يد واشنطن في العراق عملياً دون أن يأتي على أي ذكر محدد لانسحاب قوات الاحتلال منه حتى سارعت واشنطن إلى المضي في قولبته بحسب الرؤى الأمريكية، بدءاً بإعلان من يسمى بالحاكم المدني الأمريكي الأعلى للعراق بول بريمر حل القوات المسلحة وسلاح الحرس الجمهوري ووزارتي الدفاع والإعلام العراقية ورمي العاملين فيها إلى قارعة الطريق ومصادرة ممتلكاتهم ومستحقاتهم، وليس انتهاءً بالتهرب من موضوعة الحكومة الانتقالية العراقية «المزمعة» واختزالها إلى فكرة «السلطة» العراقية، أي التي تجمع ممثلي سلطة الاحتلال مع من ترتئيه من العراقيين الموالين لها، مروراً باستعادة السجون والمحاكم ومصادرة السلاح مع التركيز على الكماليات من شاكلة نشر الإذاعات المحلية الخاصة بتمويل وإشراف أمريكي للتمويه على غياب الأمن والنظام والخدمات الأساسية والخطر الذي يتهدد صحة ملايين الأطفال العراقيين بسبب التلوث ونقص الغذاء بسبب انعدام الموارد ناهيك عن ازدياد الإصابة بالأمراض الناجمة عن قذائف اليورانيوم المستنفد والتي زادها اعتراف وزير الدفاع الأمريكي المتبجح بأن قواته اختبرت للمرة الأولى، وفي عدوانها على العراق صواريخ جديدة ذات قوة تدميرية هائلة وتقوم على تفريغ الأكسجين، الأمر الذي يفضي إلى موت أعداد هائلة من البشر اختناقاً، وهو اعتراف صريح جديد باستخدام واشنطن أسلحة دمار شامل في حربها التي شنت على العراق باسم تخليصه منها، ويذكر هنا أن هانز بليكس كبير مفتشي الأسلحة الدوليين شكك مؤخراً وبشكل علني بمصداقية المزاعم الأمريكية حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل أساساً.

خارطة ابتلاع فلسطين

الساحة الفلسطينية، بدورها، شهدت تطورات أبرزها «موافقة» مجرم الحرب الإسرائيلي أرييل شارون على ما يسمى بخارطة الطريق بعد أن أخذ تعهدات من بوش وباول بأخذ «المخاوف» الأمنية الإسرائيلية بعين الاعتبار الأمريكية أي عبر ممارسة مزيد من الضغوط على الجانب الفلسطيني، وهنا وبانتظار انعقاد اجتماع الثلاثي بوش شارون وأبو مازن رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد وتحت رعاية مصرية أخذ وزير الأمن الفلسطيني محمد دحلان على عاتقه تنفيذ جملة إجراءات تتوخى القضاء على الانتفاضة الفلسطينية.

وبحسب الصحف الإسرائيلية تتضمن خطة دحلان ضمان «توبة المخربين» أي المقاومين الفلسطينيين وتجنيدهم في أجهزة الأمن الفلسطينية مع استعادة التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي عبر الدوريات المشتركة والاجتماعات الدورية بين ضباط الجانبين وهي خطة تترافق مع استمرار إجراءات محمد فياض وزير المالية الفلسطيني التي تتبنى الرؤية الأمريكية في تجفيف تمويل «الإرهاب» أي ممارسة معادلة محسوبة من التضييق والانفراج المالي على الفلسطينيين سلطة وشعباً بما يبقيهم قيد التبعية المالية والاقتصادية لإسرائيل.

«لا» عودة للاجئين

وللمفارقة هنا وبينما كان وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان يؤكد من خلال زيارته لمناطق السلطة الفلسطينية ضرورة تفكيك المستوطنات الإسرائيلية مع عودة اللاجئين، كان وزير الخارجية الإسرائيلية في كريت، التي استضافت اجتماعات الشراكة الأوربية المتوسطية بمشاركة سورية يؤكد أنه ينبغي حل مشكلة اللاجئين في البلدان التي يقيمون فيها، في حين كان رئيس وزرائه يواصل إعلان رفضه تفكيك المستوطنات في إطار ما يسمى بخارطة الطريق وهو ما يعيد الأمور مرة أخرى إلى مسلسل التنازلات الفلسطينية والتمنعات الإسرائيلية.

«ايفياِن»: قمة أم حقل معارك

في هذه الأثناء تتجه الأنظار نحو منتجع إيفيان شرقي فرنسا والذي سيستضيف اجتماعات قمة الدول الثمانية أي الدول الصناعية السبع الكبرى في العالم زائد روسيا، وسط تنازع فرنسي أمريكي حول جدول أعمال القمة بين موقف فرنسي يريد التوسع إلى البحث في مشاكل الاقتصاد العالمي وموقف أمريكي يريد قصر الموضوع على محاسبة الآخرين وتحديداً فرنسا على مواقفهم من المسألة العراقية وحجم مشاركتهم فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، علماً بأن فرنسا أعلنت «توبتها» بأنها تتحمل مسؤولية موقفها في حين أعلنت ألمانيا أن العلاقات مع واشنطن محورية بالنسبة لبرلين.

لكن وبعيداً عن هذا التنافض الشكلي مرة أخرى يبرز التناقض الفعلي عملياً في شوارع ايفيان حتى قبيل انعقاد القمة وسط تساؤلات المراقبين هل ستكون اجتماعات الثمانية قمة أم حقل معارك حيث وبموازاة إعلان عشرات الألوف من مناهضي الرأسمالية والحروب والعولمة عزمهم التظاهر في المدينة أعلن وزير الدفاع الفرنسي أن أحد عشر ألف جندي وقرابة مائة آلية عسكرية من بينها طائرات ميراج 2000 وطائرات رادار أواكس وحوامات قتالية إلى جانب طائرات استطلاع وبطاريات صواريخ أرض جو وطائرات فانتوم ألمانية وتورنادو إيطالية وطائرات تجسس بيلاتوس سويسرية سيجري نشرها جميعاً مع أكثر من 6500 عنصر شرطة لضمان حماية برية وجوية.

«ود» لا يفسد للعدوان الأمريكي قضية

على المحور الصيني الروسي ورغم كل التقارب بين واشنطن وكل من موسكو وبكين وتأكيدات هاتين الأخيرتين أهمية تعزيز علاقات التعاون «الاستراتيجي» مع الولايات المتحدة تواصل واشنطن سياسات الاحتواء والإضعاف تجاههما، وهو ما تقابله موسكو فيما يبدو بتصريحات تحذّر من توسيع بنى حلف الأطلسي باتجاه روسيا أكثر فأكثر وبمزيد من التعزيز الهادئ لقدراتها العسكرية وسط تقييمات بعض الخبراء العسكريين الروس أن واشنطن تسعى للانقضاض العسكري على روسيا في عام 2010 . ومن بين التطويرات الروسية الجديدة إجراء تجربة منظومة دفاع صاروخي مضادة للطائرات الاستراتيجية وصواريخ توماهوك وتفوق بمقدار مرتين القدرات الفنية والتعبوية لمجمع باتريوت الأمريكي.

بموازاة ذلك وبينما أدانت وزارة الخارجية الصينية استمرار واشنطن في فرض قوانينها الداخلية على الدول الأخرى من خلال فرض عقوبات على بعض الشركات الصينية بذريعة بيعها معدات صاروخية لدول أخرى أكدت صحف بكين أن أكبر عملية إعادة انتشار للقوات الأمريكية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية إنما تهدف جزئياً إلى احتواء الصين وهي في كل الأحوال لن تساعد في حماية الأمن القومي الأمريكي.

حكم إعدام على مستقبل أمريكا اللاتينية

وفي مقابل تصاعد هستيريا الاستعداء والاستعلاء والهيمنة الأمريكية شهدت ليما العاصمة البيروفية اجتماع قمة لزعماء دول مجموعة «ريو» لدول أمريكا اللاتينية التسع عشرة حيث بحث هؤلاء كيفية الحد من الاضطرابات الاجتماعية وإعادة تنشيط الاقتصاديات وجعل أمريكا من الكتل التجارية الرئيسية في العالم دون الدخول تحت ربقة منظمة التجارة العالمية التي تفيد دول الشمال الغني على حساب إفقار ملايين الفقراء أساساً في أمريكا الجنوبية والجنوب الفقير عموماً.

وفي هذا، أكد الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أن أمريكا اللاتينية ستوقع على قرار إعدامها إذا ما انضمت إلى اتفاقية مزمعة للتجارة الحرة في الأمريكيتين مضيفاً: إن فنزويلا تقف إلى جانب الشعب وتقترح نظام تكامل اجتماعي سياسي جديد أسماه البديل البوليفاري نسبة للجنرال الوطني سيمون بوليفار الذي ناضل في القرن التاسع عشر لتحرير القارة الجنوبية من المستعمرين الأمريكيين والاسبان ولتوحيد دول القارة الجنوبية سياسياً.

التاريخ لن يكون شاهد زور

وسط هذا الموزاييك من القضايا المرتبطة المنفصلة التي يشهدها العالم تبرز بعض المؤشرات التي ينبغي تسجيلها في ظل استماتة واشنطن للتعتيم والتضييق عليها. فبينما بدأت الأصوات ترتفع حول لا شرعية احتجاز واشنطن لمئات المعتقلين في غوانتانامو فاضحة الممارسات اللإنسانية الجارية هناك، قدم المحامي البلجيكي جان فيرمون، وبالاستناد إلى قوانين بلجيكية خاصة وإلى دعم شعبي عبرت عنه عرائض وتظاهرات واسعة، قدّم دعوى قضائية أمام النيابة العامة البلجيكية ضد الجنرال الأمريكي تومي فرانكس قائد القوات الأمريكية والبريطانية في العدوان على العراق بوصفه المسؤول العسكري المباشر عن جرائم الحرب ضد الإنسانية التي ارتكبتها هذه القوات هناك وهو ما دفع بواشنطن إلى أخذ الأمر على محمل الجد وتهديد بروكسل بعواقب مواصلة هذا الموضوع. وبغض النظر عن النتائج المحتملة من تحويل القضية إلى القضاء الأمريكي وهي الخطوة الالتفافية التي نسقتها الحكومة البلجيكية لتفادي الإحراج مع واشنطن إلا أن ما يسجل لفيرمون وموكليه العرب التسعة عشرة هو هذا التحرك الفردي في وجه عدوانية واشنطن والذي لم تجاريه فيه أي منظمة أو هيئة دولية تنسى قراراتها عادة تحت ضغوط الابتزاز الأمريكي في الدروج المغلقة أو على رفوف الغبار.

الرهان على الشعوب

ومع تطور الأمور بالاتجاه الذي كنا نؤكده دائماً بأن الرهان الأساسي على الشعوب وليس على الأنظمة وإن اختلفت مع المشيئة الأمريكية، وأنه لا يتوقع من ألمانيا التي أوردناها في أعداد سابقة كمثال عن استحالة أن تكون «عربية اكثر من العرب» في الدفاع عن مصالحهم، جاءت التطورات الأخيرة من بغداد والتي تضمنت قتل وجرح عدد من جنود الاحتلال الأمريكي مع إسقاط مروحية لهم لتؤكد أن لا خيار إلا المقاومة وربما كان من باب المصادفة البحتة أن تزامن ذلك مع احتفالات الجنوب اللبناني بالذكرى الثالثة لتحرير الجزء الأكبر من ترابه عبر اعتماد هذا الخيار.

■ عبادة بوظو

 

 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.