دونالد وهيلاري..؟!

دونالد وهيلاري..؟!

يطغى على التحليلات السياسية لنتائج الانتخابات الأمريكية أحد اتجاهين رئيسيين: الأول: يرى أنّ أي رئيس أمريكي جديد هو نتاج للمؤسسة الحاكمة المتوارية وراء المجالس والأحزاب المعلنة جميعها، وأنّ اختيار أي من المرشحين للرئاسة الأمريكية سيتولى المنصب، هو مسألة محسومة مسبقاً، واللعبة الديمقراطية هي تسلية بحتة الغرض منها إلهاء الشعب الأمريكي، وإيهامه أنّه هو من يختار حكامه وتقديم صورة للعالم عن نموذج الولايات المتحدة الديمقراطي. وبناء عليه فإنّ فوز ترامب ليس بالشأن الكبير الذي يستحق نقاشاً أبعد مما قيل، إذ «لا فرق بين الرايتين»، فسواء كلينتون أو ترامب، فالحاكم الفعلي واحد.

 

الاتجاه الثاني: وعلى العكس من الأول، يدخل اللعبة موحياً بصدقيتها، فيناقش في الفروقات البرنامجية بين المرشحين، وفي السمات الشخصية والنفسية والاجتماعية لكل منهم، وفي التنافس «الشرس» بين الجمهوريين والديمقراطيين، مشفوعاً بالسمات النمطية المطبوعة على كل منهما: فالديمقراطيون هم أصحاب «القوة الناعمة» والألاعيب السياسية، والإدارة الهادئة، بمقابل الجمهوريين «الحربجيين» والمحافظين وإلخ.. علماً بأنّ سياسات واشنطن في عهود الديمقراطيين لا تكاد تختلف عنها في عهود الجمهوريين، أقله في السمات المذكورة أعلاه، ويمكن لتاريخ التدخلات العسكرية الأمريكية وحده أن يبين هذه الحقيقة.

بموازاة هذين الاتجاهين، فإن الحقيقة ربما تكون أقرب إلى الاتجاه الأول، ولكنها أبعد وأعمق منه..

إنّ السلطة السياسية في الولايات المتحدة، كشأنها في كل بلد آخر، هي انعكاس وتكثيف لوضع الطبقات الاجتماعية فيها، ولما كانت السيطرة الاقتصادية هي لفئة الـ(1% الأغنى)، فإنّ السلطة هي أيضاً سلطة هؤلاء، وعليه فإنّ الحديث عن سلطة شديدة المركزية والديكتاتورية في الولايات المتحدة هو حديث منطقي، بل وحتى الحديث عن «اختيار مسبق» ليس للرئيس الأمريكي فحسب، بل وللموظفين التنفيذين كلهم ضمن جهاز الدولة الأمريكي، هو حديث منطقي أيضاً، ولكن إلى حدٍ ما..

إنّ الـ(1%) ليسوا «على قلب رجل واحد» في الشؤون كلها. فهم متحدون، ولا شك، في عدائيتهم واستغلالهم ونهبهم لبقية الأمريكيين، بل ولبقية شعوب العالم، ولكنهم مختلفون أبداً حول تحاصص ذلك النهب. ولذلك فإنّ إمكانيات التوافق فيما بينهم تكون أعلى كلما كانت أمور النهب بخير وبتحسن، ولكنّ حين تسوء الأحوال كثيراً، كما في مراحل الأزمات العميقة، ويصبح من المفروض دفع خسائر ضخمة، فإنّ حال الطغمة هذا ينقلب بشكل حاد. وإذا كان تراجع أية قوة سياسة كانت، تقدمية أم رجعية، هو التوطئة لانقسامها وتشرذمها، فحال المراكز الرأسمالية لا يشذ عن هذه القاعدة.

أي، أنّ ما جرى في الانتخابات الأمريكية هو في عمقه تركيب من الاتجاهين المشار إليهما في البداية، فما وصلت إليه الانتخابات هو نتاج صراع وتوافق- كما العادة- ولكنّهما في ظل الأزمة: صراع حاد وتوافق هش!

ليس من السهل مطلقاً أن نسقط الانقسام الموضوعي، ضمن النخبة الأمريكية، بين فاشيين وعقلانيين، على المرشحين لسدة الرئاسة. فليس محسوماً أن كلينتون ممثلة للفاشية الجديدة، ودونالد ترامب ممثلاً للعقلانية، ولا العكس بالعكس محسوم. مع ذلك فإنّ مؤشرين أساسيين يمكن تثبيتهما:

أولاً: إنّ سياسات عهد أوباما ورغم جنوحها اللفظي نحو العقلانية، إلّا أنها مارست دوراً إجمالياً يغلب فيه الفاشي على العقلاني، ولذا فإن فوز هيلاري لو حصل، ربما كان سيعني استمراراً في النهج نفسه، وذلك إلى جانب جملة الفضائح المتعلقة بكلينتون نفسها وعلاقتها المباشرة، ودورها الشخصي في دعم عدد من التنظيمات الإرهابية، في مناطق عدة من العالم.

ثانياً: إنّ «غرابة» ترامب، سواء المفتعلة أو الفعلية، تشكل توطئة لسياسات أمريكية جديدة، ولعل طريقة التعامل الأوروبي مع الحدث تشكل في جانب منها، وبالنسبة لبعض النخب الأوروبية، مؤشراً على محاولات للاستفادة من تلك «الغرابة» للتملص من التبعية المذلة لسياسات واشنطن. وذلك إلى جانب أن ترامب نفسه قد أكد ضمن وعوده الانتخابية، ميله نحو الانكفاء باتجاه الداخل. وسواء أصدق في ذلك أم لم يصدق، فإنّ الاتجاه الموضوعي للولايات المتحدة المتراجعة والمأزومة هو الانكفاء.  

أياً يكن، من أمر الانتخابات الأمريكية، فإنّ الثابت هو اتجاه التراجع الذي أسلفنا ذكره، والثابت أيضاً، أنّ تكيّفاً أسرع تقوم به الطغمة الحاكمة في واشنطن، سيعني خسائر أقل. وإن كانت الخسائر التي ستدفع مهولة، حتى عند معدلاتها الأدنى، ولكنّها دون أدنى شك أقل بكثير من الخسائر التي قد تدفعها البشرية، إن استمر «الجنون» الأمريكي، سواء ظهر عبر وجوه باردة هادئة، أو عبر وجوه محتقنة وغاضبة.