ترامب المنتصر والتراجع المستمر..!

ترامب المنتصر والتراجع المستمر..!

لنضع جانباً سيل الأخبار والتحليلات السطحية المواكبة للانتخابات الأمريكية ونتائجها، ونحاول تحليل الظاهرة من منظور موقع الولايات المتحدة في عالم اليوم، والمهام المنوطة برئيس دولة تقودها فعلياً قوى نخبة الرأسمال العالمي، بغض النظر عن الهياكل الرسمية الظاهرة على الشاشة «الحزب الجمهوري، الحزب الديمقراطي، مجلس النواب– مجلس الشيوخ- الرئيس»!

 

أولاً: لاشك أن «فوز» ترامب يعكس بمعنى ما المزاج الشعبي الأمريكي، تجاه الطبقة السياسية الممسكة بمقاليد الحكم وتجاه سياساتها. فالرئيس الجديد جاء من خارج هياكل المؤسسة التقليدية الأمريكية، حيث لم يستلم قبل فوزه أي منصب رسمي سياسي أو عسكري، وكان محور خطابه الانتخابي على الدوام، ضرورة الانكفاء لحل مشكلات الداخل الأمريكي، مع  قناعتنا الأكيدة بأنه لا يمكن لأحد الفوز برئاسة هذه الدولة، دون دعم جهات مؤثرة في المؤسسات الرسمية الأمريكية، أي أن فوز ترامب هو محصلة قوى هوامش «البرستيج» الديمقراطي، المتوافق مع مصالح قوى ما ضمن الإدارة. 

 ثانياً: بغض النظر عن بروباغندا النخبة السياسية التقليدية ضد ترامب، ومحاولة تلميع صورة كلينتون من خلال ذلك، إلا أنه ليس من الحكمة، عدم التنبه إلى مخاطر الخطاب الشعبوي لترامب خلال الحملة الانتخابية، الذي استند إلى محاكاة مزاج شرائح من الناخبين الأمريكيين، من الأجيال الشابة وشرائح القاع الاجتماعي المهمشة، والمنهكة، والمحبطة، اغتراباً، وقلقاً. فهذه التصريحات قد توظف باتجاهات مختلفة، لصالح التيارات العقلانية أو الفاشية، على حد سواء.

ثالثاً: إن العامل الحاسم في سلوك الفائز بانتخابات الرئاسة الأمريكية، سيحدده عاملان أساسيان هما: التوازن الدولي، وتوازن القوى داخل الإدارة الامريكية، وإذا كانت شبكة التوازن الدولي المتجسدة بتقدم دور روسيا وحلفائها واضحة تماماً وباتت ملموسة، فإن توازن القوى داخل الإدارة الأمريكية ليس كذلك، وما زال الصراع بين التيار العقلاني، والتيار الفاشي في مرحلة المخاض. وعليه، يمكن القول: بأن الذي سيتحكم بالسياسة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، هو: محصلة توازن القوى الداخلي والخارجي. وبالأحوال كلها، فإن التراجع الأمريكي المستمر يعمق الانقسام بين النخبة الأمريكية، بالتوازي مع تزايد الاستياء الشعبي الذي تجري محاولات تأريضه، لكي لا يتحول إلى وعي ثوري يمسّ أسس النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي، مما يعني: المزيد من الانكفاء التدريجي الأمريكي، للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه في الداخل من جهة، ومن جهة أخرى تبلور وعي جذري يفتح الطريق على نظام جديد.

رابعاً: لأن تقدم الدور الروسي في تشكل التوازن الدولي بات أمراً ثابتاً، فإنه بالضرورة سيؤثر على التوازن داخل الإدارة الأمريكية لصالح التيارات العقلانية، وإن كانت ستبدو عملية معقدة، وبطيئة، وتنطوي على مخاطر كبرى. وبالتالي: فإن تطور الوضع الدولي سيؤدي إلى تكوّن استقطاب حاد على أساس الموقف من السلم والأمن الدوليين، باعتبار أن طرفي التوازن الدولي قوتان نوويتان أساسيتان.

خامساً: إن قوى السلم على النطاق العالمي لديها طاقات هائلة، وتمتلك مقومات التقدم والانتصار كلها، حيث تضم دول مجموعة «بريكس»، وشعوب البلدان الرأسمالية الغربية، وشعوب العالم الثالث، المثقلة بنتائج السياسات الأمريكية على مدى ربع قرن تقريباً من الاستفراد بالهيمنة، أي أنها القوى الأساسية- كماً ونوعاً- على النطاق العالمي، وإن كان بعض عناصرها غير مفعّل حتى الآن.

سادساً: ستستمر عملية التصدع في المركز الرأسمالي الغربي، وتحديداً بين الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي، باعتبار أن كليهما في المركب نفسه الموشك على الغرق، بحكم درجة تفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية، ومن الطبيعي في مرحلة التراجع أن يحاول كل المهددين بالغرق النزول من المركب، وفي هذا الإطار يمكن فهم التصريحات الحذرة للساسة الأوربيين المتعلقة بنتائج الانتخابات الأمريكية.

سابعاً: على العموم أكدت الانتخابات الأمريكية مرة أخرى على الحالة البائسة للقوة «الأولى» على المستوى الدولي، ولكنها في الوقت نفسه المدججة حتى أسنانها بالسلاح. ولذلك، فإن القوى الحية من المجتمع البشري، تقف اليوم أمام تحد تاريخي، وهو: ضرورة امتصاص ردّة فعل الوحش الامبريالي الجريح على خسائره المتتالية، ولجمه بما يمنعه من توظيف فرط القوة العسكرية لديه، علماً بأن إمكانيات هذا اللجم متوافرة كلها، بما يفتح الآفاق أمام بناء عالم جديد خال من الحروب، أي من الرأسمالية ذاتها.