أيها الموقعون قد تصبحون ديكورا في بيت الخيانة «إعلان دمشق»: إلى أين ؟...
أثار ما سُمي بـ «إعلان د مشق» (16تشرين الأول 2005) استقطاباً كبيراً في الساحة السياسية السورية، لم يحصل مثله منذ بيان (التجمع الوطني الديموقراطي)/18آذار1980/ الذي أعلن ولادة (التجمع)، وقد أتى هذا الاستقطاب ليؤشر إلى الفرز وتحديد المواقع والخنادق بين القوى السياسية السورية، وهو ما كانت تنذر به مؤشرات كثيرة، عكست نفسها، بالسنوات الأخيرة، في انزياحات ايديولوجية-سياسية، وتبديل أسماء وقمصان لأحزاب وشخصيات سياسية بارزة، وفي مواقف متباعدة للمعارضين السوريين تجاه أحداث مفصلية مثل (سقوط بغداد).
في الخطاب السياسي، يوازي (المسكوت عنه) ماهو(مكتوب)، إذا لم يعط الدلالة والاتجاه له، وخاصة إذا كان المسكوت عنه، كما في «إعلان دمشق» ، مواضيع بوزن (أميركا التي أصبحت عند البوكمال - العراق - فلسطين)، فيما يأتي مرادفاً له، في الأهمية، التوقيت الذي يطرح فيه الخطاب السياسي، حيث لم يكن ببعيد عن المشروعية مقارنة الكثيرين، من المهتمين بالسياسة في سورية، بين توقيت «إعلان دمشق» (الذي أتى في ظرف هجمة أميركية على النظام السوري من الواضح أنها تستهدف معاقله في دمشق بعد أن استهدفت تلك المعاقل في بيروت، ليحمل تصعيداً سياسياً من أطراف كانت من أكثر المراهنين على «إصلاحية العهد الجديد»، وتخلياً عن فكرة عقد مؤتمروطني عام، كان بعض أطراف «الإعلان» من أوائل الداعين له، لصالح شرط مسبق وضعوه أمام الجميع، بما فيه النظام، وهو الموافقة على «التوافقات الواردة في هذا الإعلان»)وبين توقيت (مؤتمر لندن)/كانون الأول2002/الذي عقدته المعارضة العراقية عشية حرب2003 الأميركية على العراق .
يمكن أن يعطي صورة، عن الشيء الأخير، توجه مراقب (الإخوان المسلمين) علي صدر الد ين البيانوني (الشرق الأوسط، 23تشرين الأول 2005)إلى اعتبار أن «إعلان دمشق» يعبر عن «وجود بديل حقيقي... لكننا نحتاج إلى دعم وغطاء من المجتمع الدولي»، مع أنه بالتأكيد من الذكاء ليعرف أين تكمن القوة الحقيقية في «المجتمع الدولي»، في تأكيد واضح على كلام نوري السعيد المتحفظ، لما طرح مشروع «الهلال الخصيب»، عن الفرق بين عقلية الشوام وتلك التي للعراقيين، حتى ولو كانتا في إطار التوجه نفسه.
من الواضح أن السيد البيانوني هو عرَاب «الإعلان»، ولو انضم إليه بعد ساعات من إعلانه، وهو ماكان متفقاً عليه مع الآخرين لغايات عدم الإحراج السياسي والأمني، وكانت فكرة صياغته قد طرحت بالأصل في تموز الماضي عندما اجتمع مع الأستاذ رياض الترك في لندن (على أن يعقبه مؤتمر للمعارضة السورية)، إلا أن مراقب(الإخوان) قد تردد/وهو ما اشتكى منه الأستاذ الترك في مجالسه الخاصة حتى قبل أسبوع من «الإعلان»/بعد أن لمس عدم موافقة أحزاب (التجمع الوطني الديموقراطي) على مسعى الأستاذ الترك الانفرادي الذي كان يهدف إلى نسف صيغة (التجمع)/وهو ما كان يبيتُه منذ سنوات/لصالح تجمع جديد يضم الإسلاميين والليبراليين والأحزاب الكردية، حيث فضَل مراقب (الإخوان) الاتفاق مع كل أحزاب (التجمع)، وأيضاً الأحزاب الكردية، مما مهَد الطريق إلى «إعلان دمشق».
يمكن تلمس المساحة الكبيرة التي هي ل(الإخوان) في «الإعلان»، إلا أن ما يدهش هو موافقة الليبراليين والعلمانيين الموقعين عليه على تلك الفقرة التي تقول بأن «الإسلام هو دين الأكثرية وعقيدتها.... مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أيا كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية»، لأنها توحي بأن السنَة هم المسلمون فقط، فيما المذاهب الأخرى (شيعة-علويون- اسماعيليون-دروز) من غير المسلمين، مادامت تضع المذاهب الأخرى/مصطلح (مذهب) لا يطلق على غير فرق المسلمين، حيث لا يشمل طوائف المسيحيين واليهود/في خانة (الآخرين)، وخاصة أن تلك الفقرة لا تحدد ما تقصده بـ«الأكثرية» في سورية:هل هم السنَة أم المسلمون، بل تُرك الأمر غامضاً، وهو بالتأكيد ما فات على الآخرين من غير الإسلاميين(؟!!...)، مع أنه يمكن أيضاً تسجيل التنازل الكبير الآخر الذي قُدم للإسلاميين عبر كلمة «عقيدتها»، حيث أن الإسلام ليس عقيدة المسلمين بل دينهم، فيما عقيدة المسلم يمكن أن تكون ما يشاء، من ليبرالية وماركسية وبعثية وناصرية وأيضاً الاتجاه الإسلامي.
في الوقت الذي يلاحظ فيه زيادة منسوب (الإسلامية) في «الإعلان»، فإن هناك انخفاضاً في(العروبة)، وهو ما يخالف تقاليد سورية منذ إنشائها على يد الملك فيصل: ما يدهش، في هذا الإطار، هو قبول خليفة المرحوم جمال الأتاسي، في الأمانة العامة لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، التوقيع على وثيقة «تحصر» انتماء سورية إلى العروبة بأنه انتماء «إلى المنظومة العربية»، وكأن علاقة سورية مع مصر والعراق هي مثل علاقة بولندا والمجر لما كانتا في منظومة حلف وارسو؟.... هذا إذا لم نتحدث عن رجوع «الإعلان» إلى لغة تتكلم عن «مكوِنات الشعب السوري»، وهو، إذا ما أخذنا ما هو جارٍ في العراق، يعني مكوِنات ما قبل-وطنية يتم تأسيس المشاركة السياسية على أساسها ووفقاً للنسب العددية، وأيضاً يتم تعريف مواطنية المواطن وفقاً لها: ألا يخالف ذلك التقاليد السورية، عندما تولى المرحوم فارس الخوري، وهو من الطائفة البروتستانتية ذات الآلاف القليلة، منصبي رئيس البرلمان ورئاسة الوزارة؟... أم أننا، نحن السوريون، يُراد لنا الدخول في تجربة، تجري الآن على حدودنا الشرقية، تتم فيها المحاصصة، بين «المكوِنات»، للمناصب والثروات والمناطق ؟..
إذا أخذنا «إعلان دمشق» مجملاً، فإن من الواضح أن هناك ميلاناً في الكفة لصالح الإسلاميين والليبراليين(وكذلك الأحزاب الكردية)في التوجهات على حساب القوميين الناصريين، مع تغييب واضح للاتجاه الماركسي/لم يغير من هذه الصورة طلب بعض أطراف "الإعلان" من الأستاذ فاتح جاموس التوقيع عليه، بعد أيام من صدوره، عندما شعروا بالحرج نتيجة للضجة، التي أثيرت في بعض مواقع الانترنت، عن عدم وجود أي علوي بين الموقعين سواء كأفراد أو كزعماء منظمات أو أحزاب، بعد أن استبعدوه من المفاوضات التي جرت قبيل «الإعلان» بسبب فيتو وضعه أحد أحزاب (التجمع) على مشاركة حزب العمل الشيوعي/ وهو شيء لم يحصل منذ عام 1954 لما سقط الشيشكلي، عندما ظلَ الماركسيون يمثلون قوة ثانية أو ثالثة بين التيارات السياسية السورية الرئيسية طوال نصف قرن، ولم يكونوا على هامش الحياة السياسية ، كما في مصر، مثلاً.
ربما يؤشر هذا إلى اصطفافات مقبلة، تضع الماركسيين في جهة، مع القوميين حيث من الصعب بقاء (الاتحاد الاشتراكي) هناك، بمواجهة الليبراليين (والأحزاب الكردية) وإسلاميي (الإخوان) السوريين، حيث يبدو أن الأخيرين يتحركون وفق إيقاع ليس ببعيد عن ذلك الذي دفع (الحزب الاسلامي العراقي) إلى الموافقة، في ربع الساعة الأخيرة، على (الدستور)، وليس بعيداً عن ذلك أيضاً تلك المفاوضات التي أُجريت من التنظيم الإخواني العالمي مع الإدارة الأمير كية، في بحر السنة الحالية والتي قبلها، آملين، كتنظيم عالمي على ما يظهر، أن يأخذ(الإخوان المسلمون) في الوطن العربي وضعية أردوغان بالنسبة للولايات المتحدة عقب مآزق وفشل الأتاتوركية.
يبدو أن السيد البيانوني يراهن على أن تلك المعادلة التناقضية التي أُقيمت بين بغداد ودمشق (البادئة منذ صيف1921عندما أقام الإنكليزعرشاً لطريد غورو في بغداد/ بعد سنة من (ميسلون)/حتى 9نيسان2003) ستستمر عبر تغيير للحاكمين في دمشق مادام حصل ذلك التغيير في بلاد الرافدين: إذا غضضنا النظر عن تصريح كوندوليسا رايس الأخيرعن أن واشنطن تريد «تغييراً في السلوك» وليس «تغييراً للنظام» في دمشق، فهل يقبل مراقب (الإخوان) في سورية أن يأخذ دور القوى الاسلامية الشيعية العراقية في عامي 2002-2003، ليضع نفسه في وضعية (ابن العلقمي) في عام656للهجرة؟... وإذا كان الأمر كذلك:فهل يعرف ماهو رأي أهل أحياء الميدان والكلاسة والحاضر وباب السباع والصليبة؟...
■ محمد سيد رصاص