مشروع الوثيقة وتعميق الرؤية

إذا كانت الرؤية ـ من حيث التعريف العام ـ «هي نسق متكامل من النظرات إلى العالم (الطبيعة والمجتمع والفكر)، تمارس تأثيراً هاماً على توجه البشر القيموي ونشاطهم»، فإن برنامج أي حزب شيوعي المنبثق عن رؤيته الطبقية ـ حسب لينين ـ هو عرض وخلاصة مكثفة لمبادىء وأهداف النشاط السياسي والعملي للحزب، ووثيقة نظرية رئيسية لذلك الحزب في مرحلة زمنية محددة، والتي من خلالها تتحدد أهدافه الاستراتيجية الكبرى، ومهماته القريبة والبعيدة وأسلوب تجسيدها على أرض الواقع!

فمن خلال دراسة وتحليل ما جاء في مشروع وثيقةالمهام البرنامجية نلاحظ مدى المنهجية والمسؤولية في تناول الموضوعات والمهام والتي لم يدع واضعوها أنها برنامج نهائي، بل جاء التأكيد في «العنوان» على أنها «مهمات برنامجية» مطروحة للنقاش العام، ولكنها بالتأكيد هي «نواة» برنامج لحزب شيوعي، حيث يمكن له على أساس تمثلها والعمل على إنجازها أن يستعيد دوره التاريخي ـ الوظيفي في حياة البلاد. وإذا كانت الموضوعة الأولى في مشروع المهام تؤكد على الرؤية الطبقية كمحدد رئيسي لمهام الشيوعيين السوريين، وإن الماركسية ـ اللينينية هي مرجعيتهم الفكرية بعيداً عن روح الجمود والعدمية، وإن هدفهم البعيد يبقى بناء الاشتراكية، فإن كل ذلك يحتاج لأن تتحول عناصر الرؤية الماركسية ـ اللينينية إلى قناعات تتجسد في التصرفات وفي النشاط العملي، ولذلك تأتي مشاركة كل شيوعي نشيط في تنفيذ المهام وفي حياة المجتمع وخلق العلاقات الجديدة المادية منها والمعنوية، تأتي شرطاً حاسماً ليس فقط لتعزيز الرؤية لديه، بل لتجسيد المهام القريبة والبعيدة على أرض الواقع.

  إن المصالح الجذرية لشعبنا وخصوصاً الطبقة العاملة وكافة الشغيلة بسواعدهم وأدمغتهم تنعكس في الرؤية الماركسية ـ اللينينية والتي أساسها الفلسفي المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، تلك الرؤية العميقة في عمليتها وإنسانيتها وثوريتها لأنها لا تعرف المهادنة مع الرؤية البرجوازية المشبعة بالتشاؤم والإحباط الاجتماعي والمعنوي. ومن هنا جاء في مشروع الوثيقة تحديد واضح لطبيعة المرحلة الراهنة «التي تندمج فيها بشكل جلي المهام الوطنية والاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية». وهذا الترابط بين المهام التي ذكرناها هو القانونية الأعم للواقع الذي نعيش فيه، والذي لا يحتمل العمل على مهمة وإهمال الأخرى بحجج لم تعد مقبولة، لأن معرفة الظواهر هي: «عملية من الكشف التدريجي عما بينها من روابط مختلفة ـ من الخارجي السطحي إلى الداخلي والجوهري ـ له أهمية كبرى من أجل التقدم والنجاح في عملية تغيير الواقع إلى أمام». وعلى هذا الأساس لا يمكن النجاح في مواجهة قوى العولمة المتوحشة وحلفائها المحليين من أعداء الداخل وفي مقدمتهم البرجوازية الطفيلية وقوى الفساد الكبرى في الدولة والمجتمع، إلا بترابط النضال الوطني بالاجتماعي الاقتصادي والديمقراطي. ولا شك أن اقتناع القوى صاحبة المصلحة الأساسية في مواجهة الخطرين الخارجي والداخلي بأهمية الترابط الموضوعي بين المهام الثلاث يفتح الطريق أمام تعبئة قوى المجتمع على الأرض ضد المخططات الإمبريالية ـ الأمريكية والصهيونية، ويفتح الطريق أمام تفعيل خيار المقاومة الشاملة دفاعاً عن الوطن والسيادة الوطنية.

  من الواضح أن المنهج الذي اتبع في صياغة مشروع وثيقة المهام البرنامجية قد أخذ بعين الاعتبار الأمور التالية:

  أ‌- عدم الخلط بين ما هو آني ملح وبين ما هو استراتيجي دون إهمال أي منهما. فالآني الملح هو كسر هجمة القوى المعادية على الوطن وكسر همجية قوى الفساد على ثروة البلاد وقوت الشعب واستنهاض قوى المجتمع. من أجل ذلك والبعيد هو لا تراجع عن هدف بناء الاشتراكية.

  ب‌- الجرأة في تحديد الأهداف والاجتهاد، وتأكيد الثقة بالمرجعية الفكرية والرؤية الطبقية ـ المادية والتي دونها «لا يمكن التصدي لهجمة الأفكار البرجوازية ولمحاولات بعث النظرة البرجوازية إلى الكون والمجتمع».

  ت‌- تحديد طبيعة وخصائص المرحلة الراهنة دولياً وإقليمياً وداخلياً عبر منظومة من المفاهيم الجديدة أو إعادة الاعتبار إلى مقولات خالها البعض ـ من شيوعيين وغير شيوعيين ـ أنها قد انتهت وفات أوانها.

  ث‌- إعادة الاعتبار لمفهوم حركات التحرر الوطني للشعوب في شرقنا العظيم لأن المخطط الإمبريالي ـ الصهيوني لا يستهدف «الأنظمة»، بل يستهدف هذه الحركات دون استثناء عبر «إثارة الصراعات القومية والدينية والطائفية ودفعها إلى الواجهة» وصولاً إلى تحقيق ما يسمى «بمشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي تختفي خلفه المصالح المادية الطبقية الضيقة للإمبريالية الأمريكية من سيطرة على النفط وجميع ثروات المنطقة والهيمنة عليها موقعاً وبشراً.

  ج‌- التأسيس للتوازن الضروري والتفاعل بين الرؤية والخطاب السياسي المنبثق عنها والممارسة المرتبطة بتجسيدهما على أرض الواقع. «فالرؤية الشاملة تسمح بتحديد المصالح الآنية والبعيدة المدى... وطنياً واجتماعياً وديمقراطياً، وتسمح بتحديد اتجاه التطور واستشفاف التناقضات ومنحى الصراعات ومآلها وكيفية خوضها والتحكم بها»!

  ح‌- إن إطلاق المهام كمشروع للنقاش قبل انعقاد المؤتمر هدفه التجويد والإغناء والتدقيق ومشاركة أكبر عدد من الشيوعيين في القواعد، مثلما شارك المئات منهم في نقاش أوراق العمل التي أطلقتها اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين حول: «المرجعية الفكرية، والمهام السياسية والخروج من الأزمة وآليات العمل التنظيمي».

 

  خ‌- من اللافت اعتبار قضية وحدة الشيوعيين السوريين مهمة كبرى ملحة مرتبطة بالانعطاف الجاري وضرورة انتقال الحركة «إلى حالة الصعود وبدء العمل لاستعادة الدور الوظيفي للشيوعيين السوريين، ولا يمكن استكمال هذا الدور إلا بالوصول إلى حزب شيوعي واحد يلغي الحالة الفصائلية المتجاورة وغير الفاعلة في حياة البلاد وقد أكد مشروع الوثيقة عن حق أن الوصول إلى وحدة الشيوعيين السوريين «هو أمر ممكن حيث يتلاقى الهدف مع ضرورة الواقع الموضوعي»!