في الأزمة السورية..
تقف سورية الآن عند مفترق طرق لعلّه الأخطر في تاريخها ما بعد الاستقلال، مدعاته حال الاستعصاء الذي وصلته الأزمة الوطنيّة الكبرى عبر الشهور الخمسة الفائتة، والتي ستفضي، بالضرورة، إلى واحدٍ من مخرجين : إما الانزلاق إلى احتراب أهلي دموي عمره بالشهور بل ربما بالسنين، وكلفته مليون ضحية بين قتيل ومشوّهٍ ومقعد، أو، التوصّل إلى تسويةٍ تاريخيّةٍ كبرى - لطالما احتاجها الوطن السوري منذ أمد ليس بقصير– عنوانها التغيير، ومتنها استبدال نظام بتشييد دولة... دولة مدنية حديثة على قاعدة عقد اجتماعي جديد تتراضى عليه أطياف المجتمع السوري، ووفق ثوابته الوطنيّة والقوميّة.
والحال أنّ سورية بطبيعتها وطبائع مجتمعها بلد تسويات.. لكن السؤال المعلّق فوق الرؤوس هو: هل ننجز مساومة ً كهذه على خلفيّة 2000 ضحيّة، أم أنّ استحقاقها سينتظر إلى أن يرتفع العدد إلى عشرات، بل ربما مئات الألوف؟؟
يتراءى للناظر أن أجواء كلٍّ من النظام والشارع تشي بغياب الاستعداد النفسي بعدُ للقفز إلى قطار التسوية بكلفة اليوم. من هنا ضرورة إيصال كليهما لتلك القناعة الجمعيّة، ونحن مازلنا في شوط ما قبل الكارثة.. لسببٍ بسيط: وهو أنّ النظام لا يقدر بحالٍ من الأحوال على العودة إلى طريقته في الحكم قبل 15 آذار، وأنّ الشارع غير متوفّر على قدرة إسقاط النظام بالقوّة.. من ثمّ فمنطق الأشياء يقول: لا مندوحة عن الصفقة.
ولمّا كان النظام هو الحاكم والمسؤول، فبدهي أن يكون المطالب بالمبادأة والحكمة والشجاعة الأدبيّة، قبل المواطن الفرد ومجتمعه الأوسع.
لذا فإن حزمة من السياسات الصادمة والإيجابيّة التي يمكن اقتراحها وتوقّعها من رئيس الجمهوريّة، وفي بحر رمضان الرّاهن، تضحي أمر اليوم. أمّا اشتراط ذلك بضمان سلوك الشارع فهو ليس من السياسة - وهي فن المخاطرة المحسوبة بامتياز - في شيء، وبعلم أنّ التظاهر السلمي كان في الأساس وسيلة ضغط الشارع الوحيدة على النظام، بصرف النظر عمّا تراكب عليه أو وازاه من أعمال مسلّحة – لا صلة لها بجوهر ذلك الحراك - وإن تسببت بتعقيد المشهد وتكاثر اختلاطاته المشوِّهة.
حزمة المقترحات:
كان لرئيس الجمهوريّة عشيّة الأزمة شعبيّةٌ واسعة لا جدال حولها.. لكن شهوراً خمسة من الأزمة صدّعت تلك الشعبيّة... والّتي مازال في وسعه استعادتها، أو جلّها، إذا مضى إلى مكاشفةٍ أمينةٍ مع شعبه في حديثٍ مباشر من العقل والقلب إلى العقل والقلب... فحواها:
أنّنا جميعاً على المفترق سالف الذكر، وأمامنا تحدّي الفرصة الأخيرة الّتي يتوجّب علينا اهتبالها للتو واللحظة، وأنّ سورية كلّها: دولةً ومجتمعاً.. جيشاً ونظاماً.. شعباً واقتصاداً.. دوراً وقدْراً.. جغرافية وتاريخاً.. تحت التهديد، وأننا سنواجه معاً بكفالة حريّة المواطن، معطوفة على تحرر الوطن، ذلك التهديد، وسنطوي معاً صفحةً أليمة آن أوان طيّها.
وبوازع مسؤوليته الأولى كرئيس للبلاد فهو يعلن:
1- وقف النار الفوري على كامل الجغرافيا السوريّة، وعودة القوات المسلحة الى ثكناتها بالتدريج.
2- من يستمرّ بإطلاق النار سيواجَه بعمليات أمنية موضعيّة تتعامل معه جراحيّاً وبحزم.
3- تشكيل لجنة وطنيّةً من 50 عضواً تضع مسودة دستور جديد خلال 3 شهور لتقدّم إلى مجلس النوّاب الجديد لمناقشتها ثمّ إحالتها للاستفتاء العام بعد البت فيها.
4- إطلاق سراح كل المسجونين والمعتقلين السياسيين، وإصدار عفو عام وشامل عن كل القضايا السياسيّة، وإلغاء قانون 49.
5- رد الحقوق إلى أصحابها على الفور سواءً من مصادراتٍ أو استملاكاتٍ أو آثار ابتزاز، ما تقادم عليه الوقت منها أم ما استجّدّ خلال الأزمة.
6- القبض على المتسببين الفعليين بإيذاء الناس خلال الأزمة وإحالتهم إلى محكمة علنيّة، سواءً منهم من بدأها في درعا أم من شابههم في محافظات أخرى لحقت بها.
7- معاملة كل ضحايا الأحداث، عسكريين ومدنيين، كشهداء للوطن، وتعويض أسرهم وفق تلك القاعدة، مع تخصيص أيام ثلاثة للحداد الوطني.
8- القيام بجولة شاملة عبر البلاد تبدأ بدرعا وتنتهي بدير الزور، تلي فترة الحداد.
9- طي ملف المفقودين وفق آليّة ملائمة وكريمة تحفظ حقوق المتضررين وأسرهم.
10- إنشاء هيئة وطنيّة للمصالحة والعفو تتعامل مع ملفات ما بعد 8 آذار 63 الجرميّة على الطريقة الجنوب إفريقيّة والمغربيّة.
11- تشكيل حكومة إنقاذ برئاسة رئيس الجمهوريّة، وتضم شخصيّات من المعارضة الوطنيّة ، إضافة لتكنوقراط كفء، مع احتساب حقائب الداخليّة والخارجيّة والدفاع على حصة البعث.
12- إلغاء سلطة الضبطيّة القضائيّة للمدنيين لأيّة جهة عسكريّة أو أمنية، وحصرها بالنيابة العامّة وفق مذكرة توقيف لا يزيد عن أسبوعين على ذمّة التحقيق، ليصار بعدها إما إلى الإفراج أو الإحالة إلى القضاء الطبيعي.
13- الفصل الجماعي لمنتسبي سلكي الشرطة والقضاء من عضويّة حزب البعث.
14- بالمقابل، تبقى أحوال القوات المسلّحة على ما هو قائم لحين تحرير الجولان.. مع إعمال مبدأ أنّ وزير الدفاع مدني، معطوفاً على إلغاء منصب نائب القائد العام لتضاف صلاحياته لرئيس هيئة الأركان العامّة.
15- إعادة ترميم «دولة الرعاية» بكل ما تتطلبه من استيفاء حقوق الفقراء وذوي الدخل المحدود.. من دعمٍ لأسعار السلع التموينيّة الأساسيّة لمستحقيها، وتوفير طبابة مجانيّة، وتعليم مجاني بكل مراحله، وتأمين ضد البطالة، وإسكان زهيد الكلفة.
16- حظر الاحتكارات في قطاعات الاقتصاد والأعمال.
17- الدعوة إلى انتخابات نيابيّة عامّة مطلع 2012، وتكون من أولى مهام مجلس النوّاب الجديد مراجعة وإقرار مسودة الدستور الجديد، وإعادة النظر في قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام والإدارة (الحكم) المحليّة والطوارئ والتظاهر والسلطة القضائيّة والجامعات والجمعيات والعقوبات وغيرها.
18- تحقيق الاستقلال القضائي عبر إتباع سلك القضاء لمجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه رئيس محكمة النقض.. وبضمنه النيابة العامّة والتفتيش القضائي.
19- إلغاء امتيازات أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بما فيها حزب البعث، وفك أي ارتباط بينها وبين أجهزة الدولة، أو بينها وبين المنظمات الشعبية.
20- تشكيل مجلس للأمن القومي برئاسة الرئيس وعضويّة نوابه ورئيس مجلس الوزراء ووزراء الدفاع والداخليّة والخارجيّة ورئيس المخابرات العامّة ورئيس هيئة الأركان العامّة ومدير المخابرات العسكريّة.. وله أمين عام متفرّغ.
21- فصل الفرع الداخلي عن إدارة المخابرات العامّة ليصبح تخصصها الأمن القومي البحت (التجسس الخارجي ومكافحة التجسس الداخلي وتقديرات المعلومات).. ودمج هذا الفرع مع إدارة الأمن السياسي تحت عنوان: إدارة الأمن الوطني، وتتبع وزارة الداخليّة.
22- إتباع المخابرات الجويّة لإدارة المخابرات العسكريّة أمنيّاً، ولقيادة القوّات الجويّة إداريّاً.
23- إلغاء منظمة طلائع البعث، وتحويل اتحاد شبيبة الثورة إلى جناح شبابي لحزب البعث (شبيبة البعث) من سن السادسة عشر فما فوق.
24- إلغاء وزارة الإعلام، وإنشاء اتحاد الإذاعة والتلفزيون على منوال BBC، ومجلس أعلى للإعلام من شخصيّات يرشّحها رئيس الجمهوريّة وخاضعة لإقرار مجلس النوّاب.
25- تحريم التمويل الأجنبي للجمعيّات، على كافّة أنواعها، وفق القانون.
26- إعادة تنظيم القطاع العام بهدف فصل الملكيّة عن الإدارة، وتطبيق مبدأ الربحيّة مصحوباً بشدّة المحاسبة.. مع عقد مؤتمر للإدارة والإنتاج لمناقشة قضاياه واستخلاص دليل عمل للمرحلة القادمة.
27- توجيه أقصى الاهتمام إلى المنطقة الشرقيّة إنماءً ودعماً، مع تخصيص ثلث عوائد إنتاجها للإنفاق على خطّة تنميّة عاجلة لها.
28- إحقاق العدالة الضريبيّة بالتشديد على التحصيل الصحيح من دخول الأغنياء، مع تحصينه من غوايات الفساد والإفساد.
29- دمج المحافظات الحاليّة في محافظات أكبر هي: دمشق، حلب، حوران، الساحل، العاصي والفرات، يديرها محافظون برتبة وزير يتبعون رئاسة مجلس الوزراء، مع إلغاء وزارة الإدارة المحليّة، ولتتم بعدها انتخابات الحكم المحلي في ربيع 2012 لانتخاب مجالس المحافظات والمناطق والنواحي والقرى.
30- دمج الهيئة المركزيّة للرقابة والتفتيش مع الجهاز المركزي للرقابة الماليّة في جهاز واحد اسمه: الهيئة المركزيّة لرقابة الدولة، وتتبع مجلس النوّاب.
حزمة الإجراءات هذه لا أقول كفيلة - بالقطع -، لكنّها مُيسّرة - بالترجيح – لتضييق فجوة الثّقة المهولة بين النظام والجمهور وتجسيرها، وصولاً إلى إغلاقها حقّاً وفعلاً.
والحريّ أن ينتهي تعبير «نظام» من التداول في القاموس السياسي السوري، كما سقط قبله حاجز الخوف، لنشيد معاً دولة تستوعب سلطةً حاكمة تأتي بالانتخاب الحرّ والنزيه، ويتم تداولها بسلاسة الاستمرار والتجدّد، بدءاً من الانتخابات النيابيّة مطلع 2012، ووصولاً إلى الانتخابات الرئاسيّة مطلع 2014.
رمضان – 2011 فرصة أخيرة، أو تكاد، تنتقل فيها سورية إلى طور متألّق من تاريخها، تجمع بين جنباته محاسن نهجها الخارجي ومزايا تسويتها الداخليّة، في سبيكة خلاص تحفظ نسيج المجتمع وتدعّمه، وتسدّ منافذ التاّمر ورعاته.
إنّ منجاة النظام الحقيقيّة – عكس ما يظنّ بعض أهله – هي في «دولنة» السياسة، وفي تخليصه من رزايا تراكمت على وفي جسده، من لدّن أصحاب المصالح، وأوصلت قطاعات، يتزايد اتساعها، من الجمهور إلى حالة من النفور نحوه لا يعسر تلمسها.
إن الطريق إلى التغيير هو في السَوس لا في الدّوس..