ليبراليون في هيئات «غيفارية»..!
هشام الأحمد هشام الأحمد

ليبراليون في هيئات «غيفارية»..!

لا تقدر بعض القوى على تصديق التحول في ميزان القوى الدولي. وقد يدفعها هذا الأمر إلى القيام بأدوار غير متوقعة بالمرّة؛ كأن يصبح الليبراليون العرب أعداءً لـ«الإمبريالية» ويرفضون «التدخل الخارجي»..

ليس هنالك من كارثة تنزل على التيارات الليبرالية العربية أشد سوءاً بنظرهم من تراجع دور الغرب في السياسة الدولية مقابل ظهور دور فاعل ومؤثر لروسيا والصين. باتت التصدعات في خطاب هذه التيارات واضحة جداً، بل ومثيرة للسخرية أحياناً؛ كأن تتوالى تنديدات الكثير من المثقفين الليبراليين بـ«إمبريالية روسية» و«والتدخل الخارجي الروسي» في الوقت الذي يطالبون فيه أمريكا بالتدخل عسكرياً، إلى درجة الهجوم على الغرب بسبب «تخاذله» وتراجعه عن عاداته «الحميدة» في نصرة الشعوب بالطائرات..

في مرحلة سابقة، تقريباً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت «كوارث» الخطاب الليبرالي وتناقضاته ولا مبدئيته تختبئ في خندق «النضال» ضد الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة. طبعاً ليس الأنظمة كلها، إنما بعضها الذي كان بقاؤها يشكل عقبة أمام التوّغل الغربي في مناطق النفوذ السوفييتي السابق. وهكذا بدأ «نضال» الليبراليين ضد الدكتاتورية في سياق تنفيذ بعض الطلبيات الغربية بغية الضغط على تلك الأنظمة لتقديم تنازلات معينة. وكان فساد تلك الأنظمة في المقابل كفيلاً بإكسائهم رداء القداسة، وإخفاء عيوب حتى الشياطين إذا كانت في المواقع المقابلة. فيما لعبت أنظمة رجعية أخرى، كأنظمة الخليج العربي، دوراً معززاً لنشوء تلك التيارات وتغذيتها مالياً وإعلامياً.

وهكذا نشأت التيارات الليبرالية بفضل دور مزدوج من الأنظمة الديكتاتورية التي سهلت ظهورها (إضافة إلى ظهور التيارات الإسلاموية بالطريقة نفسها) بواسطة القمع وتغييب الحياة السياسية والنهب الاقتصادي لموارد الدول واتساع دائرة التهميش في المجتمعات. بالإضافة إلى دور الراعي النفطي بأمواله وإعلامه. ولا يغيبنّ عن البال الدور الغربي البارز في التقاط بعض الشخصيات الليبرالية وتلميعها كواجهات لحملات الغزو الجديدة بأشكالها المختلفة.

وفي الآونة الأخيرة، ومع انطلاق سلسة من التغيرات في منطقتنا والعالم انتقلت التيارات الليبرالية من موقع المظلومية وانتقاد المستبد ( وليس هنالك ما هو أسهل من هجاء القوى الآفلة) إلى ممارسة دور الأداة السياسية- الثقافية في تهيئة المناخ وشرعنة عودة الاستعمارَين القديم والحديث بنحو مركب. وفي بعض الأحيان تمثيل واجهات سياسية مؤقتة مرافقة للتدخلات العسكرية، كـ«مجلس الحكم الانتقالي العراقي» و«المجلس الوطني السوري»، وغيرها..

وعند ظهور معطى جديد على المستوى العالمي، وهو تَغيّر ميزان القوى الدولي لغير صالح الغرب، بدأ أداء الليبراليين العرب يختلّ، وتظهر تناقضاته الفجة بنحو كبير:

- فضمن منطق ديماغوجي وجاهل علمياً وتاريخياً في آن واحد، فإن روسيا أصبحت بلداً «إمبريالياً»، والنضال ضد إمبرياليتها بات واجباً لدى هؤلاء، وهم ذاتهم الذين كانوا لا يجدون في حقيقة أن الولايات المتحدة أو الغرب الأوربي أقطاباً إمبريالية سوى أنها «قولاً خشبياً». لذا فإن بعضهم يراوغ من أجل «تاريخه» في تمجيد الإمبريالية، فيطلق أحكاماً هجائية خالية من أي معنى علمي أو منطقي: أطماع روسيا الإمبراطورية، والبوتينية..الخ. متجاهلاً حقيقة أن روسيا باتت تمارس دوراً متقدماً في دفاعها عن حدودها، ورغبتها في إيجاد صيغة استقرار في جوارها لن تتم إلا بواسطة الحلول السياسية، بحسب السياسة الروسية.

- ليست روسيا وحدها «المشكلة» بنظرهم، فالغرب أيضاً في نسخته المحاورة لروسيا هو متخاذل ومتقاعس عن نصرة أعوانه، منبطح أمام روسيا «الإمبريالية». كأن يكتب أحد الليبراليين السوريين مقالاً بعنوان «انتحار الغرب في سورية» يحرض فيه الغرب على «الثأر» لكرامته المهدورة في سورية، ويحرضه على قلب الطاولة في وجه روسيا بتدخلٍ عسكري وازن.

- كذلك الأنظمة المعادية للغرب في مرمى النيران «الفكرية» و«الآيدلوجية» الليبراليون الذين يعملون حواشي «التيجان» الخليجية، ويعملون بنحو متواصل على تسعير الفوالق المذهبية والقومية مع إيران، أو الهجوم من بوابة  تسييس حقوق الإنسان في هذا البلد أو ذاك، وهو أمر يجب نقاشه على كل حال، ولكن شرط أن يشمل البلدان والحكومات المتورطة وذات الصلة بالأمر كلها، وألا يكون ذريعة للتدخلات الخارجية.

- انتقاد أي طرف إقليمي يجري تفاهمات ولو مؤقتة مع روسيا أو إيران. وهذه الانتقادات أو الهجمات تتناسب طرداً مع تعمق تلك التفاهمات.  

في المحصلة وعند النظر إلى الخط الذي يطرحه الليبراليون العرب تتضح للمراقب درجة التراجع السياسي والمعرفي لأصحابه. وميلهم في الوقت نفسه نحو استمرار الهيمنة الغربية والنزعة الحربجية التي شكلت ذريعة وغطاءً لوجودهم خلال عقود. ولأن هؤلاء ليسوا أصحاب وزن حقيقي في تشكل موازين القوى، التي تجري على نطاق دولي، فإن أي دور سياسي لهم مرشّح بالتلاشي خلال الأمد المنظور. لأن تغير الموازين نحو انكفاء الهيمنة الغربية سيضعف مبرر وجودهم بالشكل الحالي وبالاتجاه الذي يمثلونه.