الافتتاحية الحركة الشيوعية العالمية.. والآفاق

أعاد اجتماع الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمي المنعقد في دمشق هذه الحركة إلى دائرة الضوء والاهتمام لدى الرأي العام ووسائل الإعلام في منطقتنا.. هذه الحركة التي استعجل البعض بإعلان دفنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأكثرية البلدان الاشتراكية.. والأمر كذلك، فإن الواقع ومتطلبات الحياة يتطلبان بحثاً معمقاً لواقع الحركة وآفاقها والمهام المستجدة المنتصبة أمامها..

في بادئ الأمر يجب القول إن هذه الحركة تمر في مرحلة إعادة بناء، مما يتطلب منها تقييم جدي لتجربتها بنجاحاتها وإخفاقاتها دون تهوين أو تهويل.. لذلك لا يمكن القول اليوم إنها موجودة كما كانت في الماضي كحركة موحدة ومتماسكة، بل يمكن القول إن هناك عشرات الأحزاب وملايين الشيوعيين في كل أنحاء الأرض، ولكن الحركة تمر بمرحلة انتقالية سيتم فيها فرز الغث من السمين على كل المستويات الفكرية والسياسية والتنظيمية، وهذه العملية لن تتم بنجاح دون النضال ضد خطرين حقيقيين تتعرض لهما الحركة من داخلها، بسبب تداعيات الانهيار الذي حصل في نهاية القرن الماضي وما أنتجه من تغير مؤقت في ميزان القوى العالمي ومن تراجع عام لمجمل الحركة..

الخطر الأول: هو خطر التماهي مع القوى والتيارات الأخرى التي كانت تاريخياً على تحالف معها أو على حوافها بحجة الانفتاح، مما يؤدي إلى ضياع وجهها المستقل المعبر عن المصالح الجذرية للطبقة العاملة وسائر الكادحين، وبالتالي انحلالها وزوالها.. ولأن المجتمع مثل الطبيعة لا يحب الفراغ، ولأن النضال ضد الرأسمالية هو حاجة موضوعية، فإن قوى أخرى ستظهر من رحم المجتمع لتلعب هذا الدور، الأمر الذي سيكون أصعب وأطول زمناً..

الخطر الثاني: هو خطر التقوقع والتكلس والانعزال بحجة الحفاظ على الثوابت، مما يحول الشيوعيين إلى عصبة من «المختارين» الذين لا يعرفون مجتمعهم ولا يعرفهم مجتمعهم. الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى انقراض هذه التنظيمات مع الضرر والخسارة الذي يحمله هذا الأمر على سرعة تطور الحركة اللاحق القادم حتماً.

إن جذر هذين التيارين يكمن في التعامل الخاطئ معرفياً ومنهجياً مع الماركسية. فالأول يعتبرها كاملة متغيرة، والثاني يعتبرها كاملة ثابتة. بينما الحقيقة تكمن ما بينهما، والمهم تحديد الحدود الصحيحة علمياً للثابت والمتغير فيها.. فهي كأي علم تحوي جملة من الحقائق الثابتة، وهذه الحقائق لا تنتفي إلا بانتفاء الظاهرة التي تعالجها، وهي في هذه الحالة الرأسمالية نفسها، كما أن حقائق جديدة تضيفها الحياة بتطورها لا يجوز عدم رؤيتها.. والنتيجة أن الخطر الأول يتذرّع بالواقع الجديد كي ينسف النظرية والذي تبين أنه لم يصل إلى قامتها، أما الخطر الثاني فيتذرّع بالثبات على المبادئ لكي يتعامى عن وقائع الحياة الجدية والذي هو أضعف من أن يراها..

والنتيجة أنه يجري فرز صحي جداً في الحركة الشيوعية سيجعل بعض تنظيماتها شيوعية اسماً في أحسن الأحوال.. وسيضع هذا التطور الشيوعيين الفعليين في مكانهم الطبيعي في المجتمع، جاذباً نحوهم كل القوى الحية فيه التي لها مصلحة في النضال الجذري ضد الرأسمالية بتعبيراته المختلفة، على طريق استعادة دورهم...

والآن أين تكمن المهمة الأساسية؟ إن الأزمة الرأسمالية العالمية التي تتسارع حالياً بوتيرة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، قد خلقت الأجواء الموضوعية الضرورية لإيقاف تراجع الحركة الشيوعية والانطلاق نحو الأمام، وبمقدار فهم هذه الحقيقة والتعامل معها بروح ثورية بمقدار ما سيتم توفير العامل الذاتي الضروري للتفاعل مع الواقع الموضوعي المستجد. مما يقتضي الارتقاء إلى مستوى أعلى في كل المجالات  المعرفية والفكرية والسياسية والجماهيرية والتنظيمية.

والأمر الذي يجب أن يقال إنه بمقدار ما حققت الحركة الشيوعية تقدماً هاماً في مناطق مختلفة من العالم بالتعاون مع كل الثوريين الحقيقيين، وخاصة في أمريكا اللاتينية ومناطق مهمة من آسيا، بمقدار ماتزال هنالك معوقات ذاتية خطيرة في إطار الحركة الشيوعية في البلدان العربية تمنعها من لعب الدور المطلوب منها في منطقة مهمة من العالم يحتدم فيها الصراع مع الإمبريالية العالمية، وتكاد أن تكون نقطة المواجهة الأخطر معها في كل العالم.

إن الشعب في البلدان العربية يطالب الحركة الشيوعية بإنهاء تشرذمها وإنجاز وحدتها، لكي يتسنى لها القيام بالدور الوظيفي المطلوب منها وطنياً واجتماعياً، وهو مايزال يمهلها، وإذا ما تأخرت عن واجبها فهو لابد من أن يجد بدائله الثورية التي تسمح له بتوفير الأدوات الضرورية للدفاع عن كرامته وكرامة أوطانه.