الاستقطاب الأساسي والاستقطاب الثانوي
تتعدد جبهات الصراع في الأزمة السورية: بين عسكرية، و سياسية دبلوماسية، وإعلامية دعائية، وتتعدد المحاور والتكتلات: ودولية، وإقليمية، ومحلية، وتتعدد القوى: أحزاب جيوش، وميليشيات، كتائب وألوية، مذاهب، طوائف، قوميات... مؤتمر هنا وآخر هناك، تصريح يتبع تصريح، ما أن يخرس أحدهم، حتى ينطق الآخر، لم يبق أحد من الساسة والدبلوماسيين السابقين واللاحقين ولم يدلِ بدلوه: حتى يبدو للمراقب أحياناً أنه يستمع إلى مهرجين.
عامل الفصل في هذا المشهد المعقد كله، وهذا التداخل، والتشابك كله، والذي سيحدد مآل الاستقطابات القائمة كلها، هو الموقف من الحل السياسي، فاللوحة سترتسم في النهاية بين أنصار الحل السياسي وخصومه، وعلى أساسها فقط سترتسم الحدود والاصطفافات، والخنادق النهائية والحقيقية، و ما عدا ذلك كله وهمي وعابر، ومؤقت، وثانوي.
من جانب ما، يمكن تقسيم الأزمة السورية إلى مرحلتين:
- المرحلة الأولى ما بين عامي 2011 - 2014 حيث ظن كل طرف أن بإمكانه الانتصار العسكري وحسم الأمور لصالحه، وجاءت التطورات الميدانية لتؤكد عكس ذلك.
- المرحلة الثانية: المستمرة من 2014 وحتى تاريخه، حيث أقرت الأطراف كلها باستحالة الحسم العسكري، والقبول بالحل السياسي، والمساهمة في قوننة ذلك بقرارات دولية، أي أن تلك القوى تراجعت - ولو نظرياً - عن خياراتها العسكرية المجردة، صحيح أن سلوكها العملي لم يرتق إلى مستوى موقفها الجديد، ولكنها باتت بحكم الأمر تعمل ضمن سياق جديد، هو سياق الحل السياسي، ومحكومة بمرجعية دولية متوافق عليها.
القاطرة الروسية.. علاقة متعدية
لا نكتشف جديداً بالقول أن الحل السياسي للأزمة السورية، هو مشروع روسي قبل أن يكون خيار أحد آخر، فالدور الروسي هو الذي كان وراء بيان جنيف 1، وتقدم الدور الروسي كان وراء جنيف 2، والمبادرات الدبلوماسية الروسية كانت وراء قرار مجلس الأمن 2254، ذاك القرار الذي أصبح أرضية وقاعدة للهجوم على جبهة الحل السياسي، وتحقيق اختراقات جديدة باستمرار، حتى كان اتفاق الهدنة الروسي – الأمريكي، ويمكن القول على هذا الأساس، وحسب وقائع السنوات الأخيرة، أن كل تقدم للدور الروسي يعني التقدم خطوة أخرى نحو الحل السياسي، وكل تقدم نحو الحل السياسي يعني المزيد من التقدم الروسي في ميزان القوى الدولي، حتى أصبح خياراً لارادّ له، وإلا كيف يمكن أن نفسر الاتفاق على عقد لقاء لوزان بعد هذا الزعيق الأمريكي، والغربي كله، عموماً ضد روسيا، وتجييش الجيوش، وتحريك الأساطيل، وتوجيه الصواريخ و..و..؟
إن الخيارات الروسية في سورية، لا تتعلق بالنظام، ولا بالمعارضة، ولا حتى بسورية كدولة بحد ذاتها فقط، بقدر ما يتعلق بكونها جزءاً من وضع عالمي مضطرب، في مرحلة يعاد فيه رسم خريطة العالم الجيوسياسية، كنتيجة لتعمق التناقضات عمودياً وأفقياً، في النظام الرأسمالي الدولي، وعجز هذا الأخير عن حل هذه التناقضات بالطرق المألوفة، ولجوئه إلى خيار الحرب، مما يضع البنى كلها موضوعياً في حالة تأهب، واستنفار بما فيها الحلفاء التاريخيون لواشنطن، فكيف بالقوى التي تحاول أن تلعب دوراً لا يتوافق مع الدور الأمريكي، أو ضده، فأدنى درجة من الاستقلالية عن سلطة رأسمال المالي العالمية مرفوضة.
قوى حرب وقوى سلم
العديد من الوقائع والإشارات خلال الأشهر الأخيرة، تؤكد على وجود أكثر من رأي لدى الادارة الأمريكية في التعاطي مع الملفات الدولية، ومنها الأزمة السورية، ولعل ذلك يفسر التخبط الأمريكي، والقرارات المتناقضة في تطورات الأزمة السورية، والواضح أن التيار الفاشي الذي يعتبر الحامل الاجتماعي لقوى الرأسمال المالي الأشد رجعية، يصر على استدامة الحروب، ويستخدم من أجل ذلك نفوذه القوي في منظومة القوة الأمريكية، في الالتفاف على الخيارات العقلانية في الإدارة الأمريكية، ما نريد تأكيده هنا هو أن الكباش الروسي الأمريكي في سورية يعود في العمق إلى الصراع بين قوى الحرب وقوى السلم على النطاق العالمي، فالتيارات الفاشية التي تستثمر التريليونات في القطاع العسكري، من خلال إنتاج الأسلحة الحديثة، والشركات الأمنية التي أصبحت بمثابة دول، تريد استمرار التوتر الحالي ليس في سورية وحدها بل في أن يمتد هذا التوتر إلى مناطق أخرى في العالم، طالما أن الحرب مجال استثمار ذا ريعية عالية، والخيار الوحيد أمام هذه القوى لاستمرار الحياة في شرايين الاقتصاد الرأسمالي المتهالكة، ناهيك عن الثقافة العدوانية المتأصلة لدى هذه القوى في الإدارة بحكم انتمائها الجيني إلى الثقافة الغربية الاستعمارية.
إن الاتحاد الروسي، الذي يمتلك40% من الثروات العالمية، ويمتلك مجالات استثمار واسعة في الإنتاج الحقيقي، والمهدد في سيادته الوطنية، والمتكئ على إرث ثقافي يعتمد المساواة والتعاون في نظرته وعلاقته مع شعوب العالم، يلعب موضوعياً قاطرة قوى السلم العالمية.
إن الاستقطاب على أساس ثنائية قوى حرب - وقوى سلم اليوم هو استقطاب حقيقي، ومن شأنه أن يوسع جبهة خصوم واشنطن، وخصوصاً لدى الشعوب الأوربية التي تدرك جيداً ومن خلال تجربتها الملموسة معنى الحروب، الأمر الذي بدأنا نتلمسه لدى العديد من النخب الأوربية، التي بدأت بالتحذير من السياسات العدوانية تجاه روسيا، ومخاطر التصعيد تجاهها.
تشويه الدور الروسي.
تتم محاولات تشويه الدور العالمي الجديد لروسيا وتقزيمه، من بوابة الأزمة السورية، من خلال اتهامه على أنه مجرد موقف مدافع عن النظام، ليس إلا! وكأن المعركة تقتصر على بقاء النظام من عدمه، أو تقتصر على سورية.
وإذا كان مثل هذا الكلام الممجوج من ساسة الغرب ودبلوماسييه وإعلامه مفهوماً، ومردود عليه بحكم الدور الروسي في صياغة القرارات الدولية الخاصة بالحل السياسي للأزمة السورية، والتي تنص على تشكيل جسم انتقالي تتوزع فيه الصلاحيات، مع حزمة متكاملة من القرارات التي تفتح الطريق أمام عملية التغيير المستحقة في سورية، فإن القراءة التي تروّج من قبل بعض الإعلام المحسوب على النظام، تأخذ المنحى ذاته في التشويش على الموقف الروسي القائم على منع انهيار الدولة السورية، وفسح المجال أمام السوريين ليقرروا مصيرهم بأنفسهم، من بوابة تقزيم الدور الروسي إلى مجرد دور عسكري، وهو الذي كان في الأصل دوراً سياسي، وجاء الدور العسكري لاحقاً لتخديم السياسي.
لا أعتقد أن دولة بثقل روسيا تتطلع إلى لعب دور عالمي تتحدى اللصوص الدوليين كلهم، ولديها وبالتعاون مع حلفائها كل ما يؤهلها للعب مثل هذا الدور، ودخلت في معركة مفتوحة مع قوى الحرب المدججة بأحدث الأسلحة، وفرضت نفسها قطباً دولياً له خياراته المختلفة عما هو سائد، ستنتظر أياً من قوى العطالة التاريخية، سواء كانوا في النظام أو المعارضة للقيام بالمهام الموضوعة أمامها، كما لم تنتظر القوى الكبرى.