اختلاف الشعارات والتقاء الغايات!
يدرك كل عاقل في سورية أن لا سبيل نهائياً لتجاوز الأزمة العميقة التي تعيشها البلاد بشكل يضمن وحدتها أرضاً وشعباً ويصون استقلالها وكرامتها، إلا من خلال خلق المناخ المناسب قولاً وفعلاً، لحوار وطني ندّي وجدّي، يعبّر حقاً عن إرادة ومصالح الشعب السوري بكافة فئاته وأطيافه وشرائحه وقواه وفعالياته، ويوحّد الطاقات الوطنية برمّتها للشروع بالعمل الفوري لوضع اللبنات الأولى لبناء نظام سياسي جديد، يعالج ويتجاوز كل أخطاء الماضي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويأخذ على عاتقه العمل من أجل خلق وترسيخ قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة والحريات العامة والمؤسسات... في دولة وطنية ديمقراطية تعددية مقاومة للمشاريع والأطماع الأمريكية والصهيونية.
والحقيقة أن اللقاء التشاوري الذي انعقد بين 10-12 تموز الجاري في مناخ تعمدت بعض الجهات داخل النظام وخارجه أن تجعله، سابقاً ولاحقاً، دون المستوى المطلوب سياسياً وعلى الأرض، قد خطا رغم كل المعيقات خطوة في هذا الاتجاه، عبر قيام عدد لا بأس به من المشاركين في أعماله بطرح مطالب واضحة وجريئة في كل القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الملحّة التي تهم الناس، ومنها الدستور، وجاء في بيانه الختامي عدد من النقاط التي إذا لم تُهمل، يمكن أن تكون أساساً متيناً للمرحلة السياسية المقبلة.
لكن الكثيرين ممن لم يطب لهم وضع الدستور الحالي على رأس المواضيع المفتوحة للنقاش، والذين عملوا داخل اللقاء التشاوري وخارجه على عرقلة مقاربة مواده، وخاصة المادة الثامنة منه، ما فتئوا يصوبون نيرانهم نحو الأجواء المشجّعة التي سادت في اللقاء وتلته، ونحو ما انتهى إليه من توصيات، ونحو مقاصده وغاياته، وهؤلاء هم المستفيدون الفعليون من بقاء المادة الثامنة، كونها أعطتهم تاريخياً صلاحيات غير محدودة تتطاول على صلاحيات كافة المؤسسات، وأمّنت لهم مكاسب غير مشروعة على حساب الشعب والخزينة العامة، وسهّلت لهم فسادهم وشراكاتهم مع الناهبين الكبار، مما أنهك الدولة والمجتمع، وأوصل البلاد إلى الأزمة التي تعيشها اليوم، والتي أكدت في بعض جوانبها، أن بعض هؤلاء، وخاصة من يدّعون الحرص الشديد على النظام، ومارسوا أشد أشكال القمع ضد الحركة الاحتجاجية السلمية بحجة حمايته، هم عملياً يعملون ضده لدرجة أن بعضهم يمكن أن يكون مخترقاً بكل معنى الكلمة، وله أجنداته التي تتقاطع مع أعداء البلاد وما أكثرهم!
إن من يعارض أي تعديل أو تغيير للدستور بكل الأشكال، وبشتى الذرائع والوسائل، لأنه سيفضي إلى إسقاط المادة الثامنة وشبيهاتها منه، وما انفك يهاجم اللقاء التشاوري وما خلص إليه، إنما يعمل، واعياً أو جاهلاً، على إسقاط النظام نفسه، وإغراق البلاد في مستنقع الاقتتال الأهلي، ويفسح المجال أمام تفتيتها وتمزيق وحدتها الوطنية، لأنه بمعارضته هذه، يقطع الطريق كلياً على أي حل سياسي للأزمة، وسيشجّع على الإمعان في المعالجة الأمنية البحتة التي لم تزد الأمور إلا تعقيداً، عبر تلوينها الكثير من الشوارع والساحات بالدم وزيادة حدة الاحتقان والغضب الشعبي، وبالتالي فهو، شاء أم أبى، يتقاطع مع العديد من القوى في الخارج التي تطلق على نفسها اسم «المعارضة»، وتعمل تحت شعار إسقاط النظام على إسقاط البلاد بالتنسيق مع الغرب الرأسمالي والصهيونية العالمية، فكلاهما في نهاية المطاف هاجم اللقاء التشاوري بالوتيرة الحادة ذاتها، وكلاهما لا يؤمن بالإصلاح سبيلاً، وكلاهما أثبت أنه لا يتعاطى مع ما يجري في سورية إلا من زاوية المصالح الضيقة فقط..
من جهة أخرى، وهذا من مفارقات المشهد السوري، فإن حركة الاحتجاجات التي ترفع في عدد من المدن والمناطق شعار إسقاط النظام، فإنها بالعمق، تقصد إسقاط النهب والفساد والمتغولين الكبار، وإسقاط الممارسات الأمنية التي تتطاول على كرامات الناس وحريتهم، وإسقاط كل مظاهر التمييز بين المواطنين، وإسقاط الاعتداء على حقوقهم، وإسقاط تبديد ثروات البلاد وطاقاتها، وإسقاط الفقر والأوبئة الاجتماعية الناتجة عنه، وبهذا المعنى فإنها تلتقي جدياً مع كل دعوة أو خطوة جدية باتجاه الإصلاح الجذري والشامل بشرط أن تترجم ذلك إلى إجراءات ملموسة!.
لقد أدت مواد كثيرة في الدستور وفي مقدمتها المادة الثامنة، والاستخدام السيئ للكثير من مواده الأخرى، إلى عزل النظام السياسي عن المجتمع وليس اعتباره قائداً له، وإضعاف حزب البعث نفسه كحزب جماهيري له ماض نضالي، وإصابته بالقصور والترهّل، وبالتالي فإن تعديل أو تغيير هذا الدستور، لن يأسف عليه إلا كل من يريد إبقاء هذا الواقع قائماً، وإعاقة تشكيل ذلك الفضاء السياسي الجديد المتناسب مع التغييرات التي تشهدها البلاد، مع التأكيد أن موضوع تعديل المادة الثامنة أو إبقائها ليس شأناً بعثياً داخلياً كما يزعم البعض، وإنما هو شأن ذو طابع وطني عام.. ويجب الانتباه هنا إلى أن هذا التعديل أو التغيير الكامل لا يعني نسف المواد الإيجابية الموجودة في الدستور التي تحتاج إليها البلاد لضمان قوتها واستقلالها وسيادتها على مواردها وثرواتها، بل تعني في المقام الأول جعل مواده تتطابق مع مصالح المواطنين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
إن الحوار في بيئة مؤاتية، والسير في الإصلاحات سريعاً وقبل فوات الأوان، برعاية وحماية الحركة الشعبية والقوى والشخصيات الوطنية الشريفة داخل النظام وخارجه، هو الضمان لتجاوز الأزمة، وبالتالي هو الضمان لكرامة الوطن والمواطن.