ديالكتيك النسبي والمطلق في المعرفة
شاع في السنوات الأخيرة مصطلحات ومفاهيم تناولت مشكلة المعرفة، وقيل مراراً إنه ما من أحد يمتلك الحقيقة كلها وأضيف إلى ذلك أن أية نظرية أو منهج لا يحتكر الحقيقة بصورة مطلقة. وذهب هذا أو ذاك في الإلحاح على نسبية المعرفة في إطار التشكيك بإمكانية وقدرة الإنسان على التوصل إلى معرفة الحقيقة.
لقد أكدت الماركسية على إمكانية وصول الإنسان إلى المعرفة الحقيقية، وربطت ذلك بأولوية المادة وأشكالها الموجودة بصورة موضوعية ومستقلة عن وعينا.
والمستغرب بطبيعة الزعم وكأن الماركسية ادعت أو زعمت أنها وصلت إلى الحقيقة المطلقة، فذلك يخالف ويناقض ألف ياء الماركسية التي أكدت على استحالة الوصول إلى المعرفة الحقيقية المطلقة، لأن ذلك يناقض جوهرها الفلسفي الذي يتضمن مفهوماً معروفاً حيث أن لا بداية للمادة ولانهاية لها، أو بعبارة فلسفية مشهورة «لا بدائية المادة ولانهائيتها».
إن الماركسية برهنت على أن الإنسان يتوصل إلى معارف حقيقية ولكنها نسبية، إنها أجزاء معرفية حقيقية تتراكم لكنها لا تبلغ ذروة الهرم غير الثابتة والمتحركة دائماً وأبداً.
إن تاريخ المعارف الحقيقية النسبية الذي وقائعه متزايدة يوماً فيوماً، يؤدي إلى ظهور مسائل جديدة غير معروفة سابقاً، وهكذا فوجه من وجوه العملية تراكم المعارف الحقيقية النسبية، أما الوجه الآخر فإن عملية التقدم نحو المعرفة المطلقة عبر تراكم الحقائق النسبية يصطدم دائماً بنقيضه الذي يظهر في تزايد سلسلة المسائل والظواهر المادية التي يجهلها الإنسان، إننا نجد دلالة ذلك واضحة في قول معروف ومشهور يلخص العلاقة الديالكتيكية بين المعارف الحقيقية النسبية والمعرفة المطلقة، نجد دلالة ذلك في موضوعة مفادها «كلما ازددت معرفة ازددت جهلاً».
إن تلك العلاقة الديالكتيكية ليست مقصورة على علم من العلوم التي تختص بهذا الشكل أو ذاك من أشكال المادة، فما من علم من العلوم يبلغ الذروة ولكنه في كل مرحلة يقدم تراكمات معرفية حقيقية تؤدي إلى معارف حقيقية جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن الأجزاء المتراكمة للمعارف الحقيقية النسبية تكون دائماً وأبداً في حالة ترابط وتفاعل ولا يقتصر ذلك على الميدان العلمي الخاص، بل إن ظاهرة الترابط والتفاعل في جديد علوم من هذا المجال أو ذاك تؤدي إلى تداعيات وتطورات معرفية حقيقية في مجالات عملية أخرى. وقد بات معروفاً للقاصي والداني أن المادية لم تصل إلى فلسفة مادية ديالكتيكية على أيدي ماركس بمعزل عن التطورات النوعية للمعارف الحقيقية النسبية التي برزت في مختلف فروع العلم بما فيها الفلسفة.
وأما الإشارة الأخرى والتي ينبغي لحظها جيداً، فإنها تتلخص في أن المعارف الحقيقية النسبية قد تأتي، والأمر كذلك في غالب الأحيان، تأتي على أنقاض معارف غير حقيقية أُخِذَ بها سنوات، يشمل ذلك العلوم الإنسانية، ومن الوهم والسذاجة المعرفية أن نظن أنه كان بالإمكان التوصل إلى نظرية المنهج المادي الديالكتيكي دون أن يمر الفكر البشري بما سبقها.
إن اللوثة الفكرية التي ينبغي التوقف عندها هي مظهر من اختلال فكري لا يميز بين النسبية عند كانت والنسبية في مفهوم ماركس، وقد أدى عدم التمييز المشار إليه إلى سقوط البعض بالأخذ بنسبية كانت، وكأنها هي النسبية التي أخذت بها الماركسية، وباختصار وإيجاز، فإن نسبية الفيلسوف كانت تقوم على أنه لا يمكن معرفة الحقيقية بجوهر الظواهر وأن معارفنا ترتبط بظواهر الأشكال ولا نصل إلى الجوهر. ولكن الماركسية ترى أن القانونيات التي يتوصل لها علم من العلوم تشكل معرفة حقيقية بجوهر الظواهر في مختلف أشكال المادة.
إن عدم إحاطة المرء بكل المعارف المكونة للفلسفة التي يعلن الانتماء إليها لا يمكن أن تتشكل أساساً معرفياً حقيقياً لتصوير وكأن المناهج والفلسفات تتقاسم الحقيقة، كما أنه من غير العقلاني الاستمرار في الخلط بين معارف الفرد وتصويرها وكأنها تتضمن كل معارف التيار أو الحزب الذي ينتمي إليه، لا يشكل ذلك أساساً لتوزيع المعارف الحقيقية بين الفلسفات المتناقضة على طول الخط، ومثل هذه الحالة انتشرت في إطار معروف لم يفقد الهدف منها التشكيك بالفلسفة المادية الديالكتيكية، ناهيك عن أنها دعوات تنتهي إلى نوع من التحريض يؤدي إلى الأخذ بالفلسفة المثالية، أو إلى تلك النزعة المتهافتة تاريخياً والتي تحاول تسويغ الانتفائية الفلسفية والفكرية، وذلك لمحو الحدود الفاصلة بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادة، ويرمي ذلك إلى تداعيات أملها الانصراف عن النضال ضد علاقات الإنتاج الرأسمالي والتوقف في حدود معارضة هذا الإجراء السياسي الذي تقوم به إدارة بوش، وليس بمستغرب أن ذلك اللون الفكري أدى فيما أدى إليه إلى انتهاء هذا وذاك في أحضان الآراء والأفكار الليبرالية.