المشروع الأمريكي..
الولايات الأولى، التي تألفت منها الولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب الاستقلال التي بدأت في 1775، كانت إداراتها عموماً أكثر من همجية. مثلاً في 1611 كان حاكم فرجينيا سير توماس ديل، وأدار المستوطنة بالحديد والنار، بالقانون الإلهي والأخلاقي والحربي. فكان يعطى لكل شخص بما في ذلك النساء والأولاد رتبة عسكرية، وتحدد مهماته بتفصيل، وإلا خلال بها يستوجب عقوبات من نوع مبيت المعاقب ليلة كاملة وقدماه مربوطتان إلى نحره، والجلد في المخالفة الثانية، أو الخدمة سنة في مطابخ السفن في المخالفة الثالثة. وبعد قيام الولايات المتحدة بدستورها العنصري الذي أقر في 17 أيلول 1787 بقيت الإدارة الأمريكية عدوانية تجاه العبيد، ثم فيما بعد الجوار، ثم تجاه أمريكا اللاتينية بمجموعها.
والتفتت الإدارة الأمريكية إلى احتواء العالم منذ الحرب العالمية الأولى وربما قبلئذ. ففي تلك الحرب وبعدها لعبت أدواراً ماتزال تفاصيلها غير معروفة، وربما منها دورها في الحرب الأهلية ضد الثورة البلشفية في روسيا القيصرية. ربما أيضاً قيام النازية الألمانية بإمكانها أن تقوم ثانية إلا بمساعدة خارجية هادفة إلى تسليطها على الاتحاد السوفيتي الوليد. وأهم ما فعلته الإدارة الأمريكية بين الحربين الأولى والثانية هو فرض الدولار في مؤتمر بريتون رودز (1944) نقداً دولياً. وهذا جعل الاقتصاد العالمي كله، بما في ذلك الاقتصاديات الحرفية والفلاحية، ترتبط بذمة الولايات المتحدة.
بعد الحرب العالمية الثانية كان هاجس الإدارة الأمريكية إحلال نفوذها محل النفوذين الإنكليزي والفرنسي في المستعمرات، واستطاعت تحقيق ذلك تدريجياً منذ أربعينات القرن الماضي في آسيا وأفريقيا، وكانت حصة الشرق الأوسط إقامة إسرائيل، وتوسيع امتدادها البترولي إلى كامل الخليج وإيران، وكان قد بدأ في السعودية منذ ثلاثينات القرن الماضي.
وفي الوقت نفسه كان هاجس الإدارة الأمريكية الأخطر ضرب الاتحاد السوفيتي، والانتهاء من نظام الاشتراكية العلمية. وفي أيام الرئيس السابق ترومان أسقطت أول قنبلتين فوريتين على هيروشيما وناغازاكي، كانت النية ضمنا استخدام السلاح الجديد ضد الحليف السوفيتي، وألمح الرئيس نفسه عن ذلك في مؤتمر بوتسدام (1945) بين الحلفاء، وتجاهل ستالين التلميح، مع أنه أدرك خطره الكبير، وهتف من فندقه إلى موسكو مستعجلاً الأبحاث النووية في بلده. وبعد القفزات والمساعدة في قيام أنظمة الاشتراكية العلمية، عدل المشروع الأمريكي من ضرب الاتحاد السوفيتي إلى تخريب المعسكر الاشتراكي العلمي، والإدارة الأساسية في ذلك كانت وما تزال تفعيل مختلف الرواسب القديمة، العنصرية، والطائفية والقبلية إلى جانب تجنيد العملاء من كل نوع. واستطاعت الإدارة وشقت الصين في 1956، وشقت البانيا، وحركت هنغاريا، وتشيكوسلوفاكيا ثم بولندا ضد النظام الاشتراكي العلمي، وفي أيام بريجنيف في الاتحاد السوفيتي استطاعت تجنيد شلة غورباتشوف ويلتسين إضافة إلى الأصوليات، الصهيونية بالدرجة الأولى، ثم المسيحية والإسلامية...
على صعيد العالم الثالث شنت الإدارة الأمريكية بالتحالف مع إداراته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حرباً إعلامية شعواء ضد الشيوعية باستخدام الأجهزة الإعلامية الدولية والمحلية لكل أنواع الأكاذيب والتشهير المبتذل، من الشيوعية جريمة تلاحق بالقوانين الثالثية. ومع تقارب بعض الدول الثالثية والاتحاد السوفيتي في ستينات القرن الماضي، واستطاعت الإدارة الأمريكية أن تسخر أدوات حربها الخفية لـ (تبويظ) ما يقدمه الاتحاد السوفيتي من مساعدات للدول الثالثية: لقد خربت السدود والمعامل التي بنيت، وبيعت التكنولوجيا التي تم الحصول عليها، عسكرية كانت أو مدنية فاطلعت العسكريات الغربية من خلال ذلك على أسرار الصواريخ والطائرات والرادارات السوفيتية التي في متناول الثالثين. أيضاً عمل العديد من الطلاب الثالثين في الاتحاد السوفيتي وفي بلدان الاشتراكية العلمية بالتهريب، وأحياناً ببيع الباسبورات مستفيدين من تساهل الإدارات في تلك البلدان تجاه رعايا العالم الثالث، وعملة بذلك عامدين، أو عن غير قصد، في تخريب المعسكر الاشتراكي العلمي. وعاد الكثيرون ممن استفادوا من العلم، أو من التدريب والاشتراكية العلمية إلى بلدانهم يشتمون الاتحاد السوفيتي والاشتراكية العلمية لافرق مجاناً أو بأجر.
في أوروبا، الإدارة الأمريكية ولي نعمة بالنسبة للإدارات الأوروبية ولذا، رغم شعور الشعوب الأوربية عموماً بتعسف الإدارة الأمريكية وبالنفور منها، فإن تلك مرتبطة بالأخيرة ارتباطاً عنصرياً، وربما مصيرياً. ولذلك تدفع الإدارات الأوربية، ودفعت، فواتير لمشروع الأمريكي على حساب شعوبها، إنها تدفع فواتير التضخم النقدي الأمريكي من اقتصادياتها، ودفعت من قبل فواتيرا الحرب الإعلامية ضد الاتحاد السوفيتي وفواتير الحلف الأطلسي، وتدفع اليوم من دم شعبها وعلى حساب شعبها كل فواتير المشروع العدواني الأمريكي، تدفع فواتير احتلال العراق واحتلال أفغانستان، وفواتير الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين، عدا الفواتير المتعلقة بمناطق أخرى من العالم.
طبعاً كان لابد من أن يواجه المشروع الأمريكي برد فعل، أولاً من الشعوب، وثانياً من الإدارات المهددة، وثالثاً من الداخل الأمريكي. لقد اعتادت الرأسمالية الدولية منذ زمن طويل مواجهة، رد فعل الشعوب وذلك بطريقتين، الأولى هي شق الشعب طائفياً، عرقياً، قبلياً.. وجعله يقاتل بعضه، بدلاً من أن يقاتل عدو الجميع، وهو الرأسمالية الدولية. والثانية هي نوع مبدأ جي غود JAY GOULD (رجل أعمال ومالي أمريكي من القرن التاسع عشر)، ومبدؤه هو: (استئجار نصف العمال لقتل النصف الآخر) فالرأسمالية الدولية تملك الجيوش والميليشيات والعصابات وكلها من أصل شعبي ومسلحة لقمع الشعب.
غير أنه حينما يصبح الشعب محصوراً في الزاوية، يصبح أشرس من أن يقمع بسهولة، مثلاً في فلسطين والعراق وأفغانستان يواجه الناس العدوانية بأظافرهم، ويكلفون المحتلين أثماناً غالية.
الإدارة الأمريكية أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تهدد كل شيء البلدان والشعوب والكوكب،
والقوات الروسية ترى في تحركات الإدارة الأمريكية تهديداً خطيراً فالحشد في كل اتجاه على الحدود الروسية والصينية (ومن الجملة الدرع الصاروخي في بولندا، وضم بلدان الاشتراكية العلمية السابقة إلى الحلف الأطلسي) يؤلف نوايا عدوانية بعيدة المدى ضد البلدين لقد استطاعت الإدارة الأمريكية تقويض نظام الاشتراكية العلمية في قلاعه الأساسية، وخربت الاقتصاد الروسي، وأصبحت تستهدف السلاحين الروسي والصيني، وليس هذا خافياً على البلدين، ولذا، فإنهما استعدا لذلك عسكرياً وأيضاً على صعيد السياسة الدولية. أبعاد ذلك ما تزال غير معروفة بدقة، ولكن التناقض بين الإدارة الأمريكية والقوتين النوويتين الكبيرتين خطير للغاية على الكوكب، إذا ما أدى إلى صدام نووي.
المشروع الأمريكي، يبدو أنه يكبح أكثر فأكثر، على مستويات عديدة، ولكن يبقى لدى هذا المشروع وسائل عديدة وخطيرة، فتحت تصرفه الجيوش (بما فيها جيوش المخابرات) الجبارة، والإدارات الاستعمارية القديمة والإدارات الثالثية، وتحث تصرفه أيضاً الرجعية المتمثلة في أدواته المتنوعة..
الوضع الحالي الذي خلقته الإدارة الأمريكية في العالم هو وضع همجي بكل ما في الكلمة من معنى. ما من بلد، وما من فرد، مطمئن على أمنه لا على الحياة ولا على المال. إنه شبيه بالوضع في أوربا القرن الثامن عشر، مع الفارق في أن السلاح أفتك بكثير.
وهذا الوضع الهمجي يجب أن ينتهي، ولا ينهيه سوى النضال التقدمي على المديين القريب والبعيد.
■ قاسيون - بتصرف