الافتتاحية رياح.. وروح العصر الآتية!
ماذا يعني أن تقوم الإدارة الأمريكية بوضع اليد على أكبر شركتي تمويل عقاري في الولايات المتحدة وهما «فاني ماي» و«فريدي ماك»؟ إذ تملك الشركتان أو تضمنان نصف الدين العقاري للمساكن والبالغ 12 ألف مليار دولار، وقد صرح وزير الخزانة الأمريكي «إن الشركتين كبيرتان جداً لدرجة أن فشل إحداهما أو كلتيهما سيؤدي إلى اضطراب واسع في الأسواق المالية في الداخل والخارج»، والمعلوم أن الشركتين قد خسرتا خلال العام الماضي 90 % من قيمتهما بسبب الخسائر الناجمة عن عدم تسديد القروض من أصحاب المساكن الذين فقدوها في كل الأحوال..
ويعتبر هذا التدخل الحكومي الأكبر في التاريخ الأمريكي ولم يشهد له مثيل حتى في أزمة 1929 ـ 1930...
لقد بدأت الفقاعة المالية بالانفجار، لدرجة أن سياسة سد الثقوب لن تجدي معها نفعاً، فالمشكلة أصلاً ليست في التمويل في القطاع العقاري وإنما في الحجم الهائل من الكتلة الدولارية في التداول والتي لم تعد تتناسب لا من قريب ولا من بعيد، لا مع حجم الناتج السلعي الأمريكي ولا مع ضرورات العمليات التجارية العالمية التي كان يخدمها الدولار كعملة عالمية وخاصة في ظل ظهور وتطور عملات إقليمية أخذت تزيح الدولار من مساحاتها مثل اليورو واليوان والروبل، مما شكل ضغطاً هائلاً على النظام المالي العالمي وعلى الاقتصاد العالمي، لذلك إذا تم سد الثقب الآن هنا، فإنه سيظهر مرة أخرى في مكان آخر بشكل أشد وأخطر، وقريباً جداً...
وبعيداً عن التحليل الاقتصادي البحت لهذه الحادثة الهامة يجب الوصول إلى استنتاجات حول دلالات ونتائج ما جرى وسيجري:
1 ـ قامت الحكومة الأمريكية حامية قدس الأقداس الملكية الخاصة والمروجة رقم واحد للسياسات الليبرالية الجديدة في كل العالم وخاصة في اقتصادات دول الجنوب والداعية إلى الخصخصة بالطول والعرض، قامت عملياً بتأميم بنكين من أهم بنوك نظامها المصرفي، وهي إن قامت بذلك ليست قناعة بضرورة تحويل الملكية الخاصة إلى عامة، وإنما حماية لما تبقى من ملكيات خاصة كان يمكن أن يجرفها الانهيار، فكان ذلك بالنسبة لهم، الضرر الأقل... ولكنه في كل الأحوال تنازل اضطراري عن مبدأ هام من مبادئ قدسية الملكية الخاصة، وكذلك تراجع جدي عن وصفة إبعاد الدولة عن التدخل في الشأن الاقتصادي التي يساق الغير إليها قسراً وبشتى الأساليب.. والمهم أن نلاحظ هنا أن التأميم جرى لشركات خاسرة.. فما قول فريقنا الاقتصادي الذي يسعى إلى خصخصة شركات رابحة؟.. أما نحن فنقول له: «يطعمك الحج والناس راجعة».
2 ـ بلغ حجم الأزمة الأمريكية وبالتالي الاقتصادية ـ المالية العالمية حجماً غير مسبوق ويهدد من حيث الأساس المنظومة الرأسمالية العالمية التي أشرفت على انهيار لا سابق له، ويمكن أن يصبح الأخير إذا ما توافرت له الظروف السياسية المواتية على النطاق الكوني، وملامح هذه الظروف بدأت بالنضوج من تمرد أمريكا اللاتينية الذي قطع شوطاً هاماً، إلى المقاومات في منطقتنا التي تعمق الأزمة الأمريكية بشكل مباشر، وصولاً إلى الصدام في القفقاس والبحر الأسود الذي ينذر في المستقبل المنظور بتداعيات خطيرة..
إن عدم قدرة الإمبريالية الأمريكية على تنفيذ مخططاتها العسكرية الجيو ـ استراتيجية ضمن الآجال التي خُطّط لها، سيسرع من أزمتها، ولكن ذلك لن يجعلها أكثر ليناً ومرونة، بل العكس هو الصحيح.. فتضافر الأزمة الاقتصادية ـ المالية، مع الاستعصاءات السياسية ـ العسكرية التي تصيب مخططاتها، سيجعلها تبحث عن حلول سريعة وجذرية يمكن أن تدفعها إلى مغامرات حمقاء تهدد البشرية جمعاء..
إن ملامح ما يجري اليوم على الأرض من الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية هي ملامح مواجهات شاملة تتشابه إلى حد كبير مع أجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية.. فهل نستطيع أن نمنع الوحش الأمريكي من ارتكاب حماقته؟! إن قسطنا في هذه المسؤولية التاريخية هو تحصين داخلنا ووضع الأساس لتوطيد وحدتنا الوطنية، وهذا الأمر لا يمكن الوصول إليه دون تغيير جذري وشامل في السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية يتناسب مع روح العصر القادمة التي بدأت تهب رياحها بقوة، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن...