من الذاكرة الشيوعية.. الرفيق الراحل جمعة قجو..
سأستعيد من الذاكرة تجربة بعض الرفاق الذين بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا، للوقوف على الظروف التي كانت تحيط بهم أثناء نضالهم ومنهم الأخ والرفيق جمعة قجو..
الرفيق الراحل من مواليد 1931 من عامودة منطقة الجزيرة، عمل على الآلات الزراعية، ثم استقر في استثمار محطة للمحروقات البترولية.
انتسب للحزب الشيوعي السوري في أوائل الخمسينات من القرن الماضي تحت تأثير اشعاعات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى والإنجازات التي تحققت في الاتحاد السوفيتي في المجالات كافة، وكذلك نتيجة الجور والاضطهاد والحرمان الذي كان يتعرض له الفلاحون على يد الأعيان وكبار الملاكين وما كان يعانيه العمال الزراعيون من أرباب العمل من إهانات وأعمال سخرة وطرد وحرمان من أبسط حقوقهم.
في البداية استطاع أن يؤثر على جميع أفراد عائلته، ثم على أقاربه، حتى طبع اسم العائلة (قجو) باسم الشيوعية، وهذا وسام على صدورنا جميعاً نعتز به الآن، ثم امتد تأثيره على كل من تعامل معه في كل مكان.
عرفته شيوعياً في انتخاباات برلمان عام 1954، حينما كان يركب سيارة (جيب) مكشوفة، ويهتف مع شقيقه (عاش الحزب الشيوعي عاش.. بقيادة خالد بكداش). واذكر من رفاقه الذين ناضلوا معه آنذاك (رشيد كرد، ملا سراج، محمود جانكو، ديبو الياس، عبد الرزاق كاكلو، صالح ميرزو وغيرهم...) حيث أنشؤوا أول نقابة مهنية هي (نقابة العمال الزراعيين).
وقف بلا هوادة ضد محاولات التكتلات والولاءات وجمع الأنصار في الحزب، وتعرض نتيجة ذلك للتجميد والإبعاد والعزلة وبقي صامداً، لم يركض وراء أي امتياز أو منفعة مأمولة من الحزب، بل بالعكس، كان يساعد بعض رفاقه من حسابه الخاص، وعندما نال ولده الشهادة الثانوية العامة لم يرشحه لمنحة دراسية إلى إحدى الدول الاشتراكية رغم أنه كان في الهيئة الحزبية المسؤولة في المدينة، فرشحه أحد أقاربه في الهيئة وأذكر ما قاله في وداع ولده: (أن تكون شيوعياً فأنت ابني وإلا فلا).
لقد كان متواضعاً وعطوفاً ففي الأعياد كان يقوم بجمع التبرعات من البيوت التي يزورها ويعطيها لأبناء الرفاق الفلاحين. ودخل السجن معهم وتعرض للإهانات والشتائم والتهديد بالضرب والقتل.
ذات يوم وفي عشية الأول من أيار عيد العمال العالمي، طلب منه عمه - وكان مختاراً وذا مركز اجتماعي عند السلطة - أن يرافقه لمنع الشيوعيين من احتمال توزيع بيان أول أيار فلبى طلبه وبرفقته، راح يوزع البيان خلسة أثناء تجوالهم في شوارع المدينة.
في عهده توسعت المنظمة، فكانت هناك المنظمة الحزبية العريضة ومنظمة النساء ورابطة النساء السوريات واتحاد الشباب الديمقراطي، وكان لهم نشاط ملموس على أرض الواقع، مما دعا البعض إلى تسمية عامودة آنذاك: بـ(موسكو الصغرى).
وكان بيته ملتقى للرفاق، وبمثابة مكتب للحزب، ومركزاً للنشاطات الحزبية والدورات الانتخابية للإدارة المحلية. وفي إحدى هذه الدورات، وبينما كان ممثل حزبنا قد حصد الأكثرية الساحقة من أصوات الناخبين، والشيوعيون وأصدقاؤهم يترددون لمعرفة نتائج التصويت والفرز، وكانت زوجة أبيه تسهر معنا طوال الليل وتقوم بخدمتنا، رأيتها تذرف الدموع، فقلت لها: لماذا يا ماما فقالت: ليت جمعة إلى جانبكم اليوم ليرى ويشعر الفارق الكبير بين الأمس واليوم، فتحية إلى تلك الأم الراحلة التي لم تكن شيوعية، ومع ذلك كانت تقول دائماً.. أنا أم الشيوعيين.
لم يكن الرفيق الراحل يبالي بصحته ولا بمستقبل أولاده، وكان جل اهتماماته تنفيذ مهام الحزب وسياسته، وكغيره من الشيوعيين اتهم من الأعداء الطبقيين بالكفر والإلحاد، ويوم إدخال جنازته إلى الجامع ليصلى عليها، خرج من الجامع أحد رجال الدين الكبار رافضاً الصلاة عليه.
ونتيجة تفاؤله اللامحدود بانتصار الاشتراكية، لم يكترث بجمع الأموال، رغم أن الظروف كانت تسمع له بأن يصبح ثرياً، وكان يقول إن الاشتراكية آتية لا ريب فيها، وهي قاب قوسين أو أدنى.
مورست عليه ضغوط كثيرة ليتخلى عن قناعاته، من ضغط الحاجة المادية، إلى الضغوط الأمنية إلى ضغط والده الذي كان ساعده الأيمن، إلى ضغط بعض رفاقه.. لكنه صمد وبقي شيوعياً ملتزماً، إلى أن وافته المنية في 28/7/1982 إثر نوبة قلبية حادة، ولم يترك سوى بضع ليرات سورية مع تقارير حزبية سلمتها زوجته من بعده إلى المنظمة الحزبية.
هكذا كان الشيوعيون الأوائل.. فكان منهم رفاق صدقوا ما عاهدوا حزبهم عليه..
وعهداً منا أننا على خطاهم سائرون، وسنتابع المسيرة حتى نحقق وحدة الشيوعيين السوريين في حزب شيوعي حقيقي يقوم بدوره الوظيفي التاريخي، هذه الوحدة التي أصبحت اليوم ضرورة وطنية وطبقية بامتياز.
■ عامودة - عبد الحليم قجو