د. كمال خلف الطويل لـ«قاسيون»: «حزب الحرب الأمريكي» يكرر ما فعله اليمين البريطاني قبيل انهيار الإمبراطورية البريطانية
يبدو العالم اليوم، في ظل الأزمات المتتالية التي تعيشها الإمبريالية العالمية المتوحشة ورأس حربتها الإمبريالية الأمريكية، وكأنه يقف على حافة الهاوية.. والملفت أنه كلما ازدادت حدة وتعقيد هذه الأزمات، ازداد إصرار «صقور القطب الواحد» على مشاريعهم المتخبطة للهيمنة على مقدرات هذا العالم وثرواته وبيئته وسكانه ومصائره، وحرمان خصومهم ومنافسيهم الإمبرياليين من إمكانية مقاسمتهم الثروة والسيطرة والقرار..
للإضاءة على هذه الأزمة العاصفة التي تعد بتقويض النظام الإمبريالي بصورته الحالية، وانعكاسات ذلك على العالم عموماً ومنطقتنا خصوصاً، استضافت «قاسيون» المحلل السياسي والباحث الاستراتيجي الدكتور كمال خلف الطويل، وأجرت معه حواراً مطوّلاً..
• د. كمال.. أهلاً وسهلاً بك ضيفاً عزيزاً على صفحات جريدتك «قاسيون»..
أهلاً وسهلاً بكم.. لي الشرف بالحضور على منبركم ووجودي بينكم..
• بدايةً، في المحور الأول، نودّ لو تعطينا فكرة كاملة عن حقيقة الوضع في الداخل الأمريكي، وكيف تنعكس الأزمة الاقتصادية على نمط الاستهلاك، وما هو حجم التوتر الاجتماعي- الداخلي، وما هي احتمالات تطوره اللاحق مع انعدام الحلول الناجعة؟
سأتكلم عن كل ذلك بومضات بارقة ليس إلا، فأحياناً هناك رسائل صغيرة وقصيرة قد تفي بالغرض أكثر من الاستفاضة..
على سبيل المثال: قيمة العقارات الفعلية في الولايات المتحدة هي 50 تريليون دولار، بينما حجم الرهونات العقارية على هذه العقارات تصل حتى 450 تريليون دولار أي تسعة أضعاف، ومن المعروف عادة بالدوائر الاقتصادية، الغربية على الأقل، أن النسبة والتناسب بين قيمة العقار وحجم الرهونات عليه يجب ألا تزيد عن واحد إلى ثلاثة. إذاً نحن أمام ثلاثة أضعاف الحد الأقصى..
هناك رقم فلكي آخر.. إن حجم الدين الحكومي الأمريكي الفعلي فقط، سواء من أفراد أو شركات هو 56 تريليون دولار، وبالتالي نحن أمام تحول يحدث بشكل شديد التسارع منذ الثمانينات أيام عهد ريغان، حيث يجري الانتقال من مجتمع كانت قيمة العمل والإنتاج فيه هي العليا، وإن لم تكن العليا فهي لا تقل شأناً عن قيمة الاستهلاك، وكان هناك شيء شائع في أمريكا اسمه (work ethics) «أخلاقيات العمل».. أي أن تعمل بجد في سبيل عملك، وأن تصل من خلاله إلى مردود يفضي بك إلى تحقيق حلمك الأمريكي، (بيت – سيارة)، هذا المجتمع الآن مرهق لدرجة كبيرة، بعد أن كان الإنتاج قاعدته الصلبة، تحول إلى أن أصبح الآن ربع دخله القومي فقط من الإنتاج الصناعي والزراعي، أما ثلاثة أرباعه الباقية فهي خدمات ومعلوماتية.
تجد الرأسمال الأمريكي يصدر صناعاته إلى دول العالم الثالث ويحصل فيها على مكاسب كبيرة، بسبب القوة العاملة الرخيصة، ويصدّر من دولة المنشأ شركات متعددة الجنسيات تصدر منها منتجاتها بالأسعار الفلكية، ويكون هامش الربح كبيراً جداً، فالأجور بدلاً من 16 بنس/سا في دول العالم الثالث، قد تصل في ديترويت أو أي مكان في الولايات المتحدة إلى 16 دولار أو 26 وحتى 36 دولار/سا. فالظاهرة الرهيبة هي أن توطن معاملك ومصنّعاتك في دول رخيصة العمالة، هذا أدى إلى إفقار وإملاق ما كان يسمى بالطبقة العاملة المترفة بعض الشيء.
الآن نوعية الوظائف التي من الممكن أن تجدها في سوق العمل هي الوظائف التافهة أو الرثة، كوظيفة في مطعم همبرغر أو في محطة وقود، نوعية هذه الوظائف لا تعطيك مزايا عمل، حيث لا يوجد تأمين صحي أو تأمين بطالة، حقوقك هي ما تأخذه من هذه المياومية أو حتى «الساعاتية» إن جاز التعبير.
ريغان أرسى قيمة ضمن إطار التنافس الشيوعي الرأسمالي في حينه، هذه القيمة المستنامة التي أيقظها من سباتها وأطلقها للعنان: (دعه يعمل، دعه يمر) أي اقتنِ المال كيفما أتى، وبالتالي بتنا نجد اليوم خريجي جامعات من كليات الاقتصاد والتجارة، خرجوا إلى الأسواق ليعملوا موظفين، وبعد أيام قليلة ترى أنه يملك B.M.W لأن الوجاهة هي الأساس، والبروز هو الأهم، لا أن تصل إلى تلك المرتبة مع الوقت، لأن ريغان يقول: «عش حياتك، وتمتع بمباهج الدنيا قبل فوات أوانها». بينما على سبيل المثال فرانكلين روزلفت عندما أرسى العقد الاجتماعي كان هناك حث للعمل والاجتهاد، الذي يفضي بك إلى أن تكون على سوية اجتماعية ومادية معقولة. كل هذه القيم أزيحت وأدخل المذهب الريغاني، وسحبت معها الشرائح التي كانت أقل يمينية في المؤسسة الحاكمة وأقصد تلك التي كانت حاضرة في الفترة الطويلة لكلينتون، والنتيجة أنه ذهب ما يسمى بـ(اليسار) إلى اليمين، ولم يعد هناك موقع أو مرحلة وسطى أو برزخ، بل أمسك اليمين بيساره وأخذه يميناً، فشهدنا فترة بدت وكأنها نوع من الاعتدال في السياسات، لكن في حقيقة الأمر كل ما فعلته أنها طوّلت فترة هجوع الأزمة، قبل أن تعود وتظهر بشكل مدمر مع عودة اليمين المتشدد إلى السلطة بكل أفكاره ومفاهيمه عن الداخل والخارج، وقد تستغربون من المشابهة التاريخية التي أريد إجراءها، مع فارق القياس...
تكاد الولايات المتحدة اليوم، تشبه حال بريطانيا في الفترة ما حول الحربين العالميتين الأولى والثانية، ففي حينه كانت بريطانيا الإمبراطورية العظمى التي لا تغرب عنها الشمس، إذ كان ربع المعمورة تحت هيمنتها، وقتها قام اليمين المتشدد الصقوري البريطاني وعلى رأسه (تشرشل) الذي يتفاخر البريطانيون به، بعملية تدمير ذاتي منظمة وممنهجة للامبراطورية البريطانية دون وعي أو إدراك، فقد انطلق من أساس تصفية أي خصم محتمل، لكن الذي حصل أنه ضخّم بشكل غير معقول من حجم الخطر الألماني: القيصر أولاً حين كان لورداً في البحرية، ومن ثم النازي حين صار رئيساً للوزراء، رغم أن النازيين الذين يكنون احتراماً شديداً للتقاليد البريطانية، كان همهم وهدفهم هو ستالين والاتحاد السوفييتي، وليس بريطانيا، إلا أن اليمين المتشدد برئاسة تشرشل، وبعكس إرادة الجناح (الحمائمي) الذي كان يمثله (تشمبرلين)، قاد عملية الانطلاق بلا قيود إلى الاصطدام مع ألمانيا مرتين بما كلفه ذلك من أموال طائلة لا نهاية لها، ومن بشر وعتاد رهيب وتضحيات جسيمة... لقد خرجت بريطانيا من فرنسا بشكل مذل وقامت بعبور المانش، مما استدعى وقوف تشرشل في مجلس العموم البريطاني ليقول: «لا أملك إلا العرق والدم والدموع لكم»..
أوصل تشرشل الإمبراطورية البريطانية لاستجداء العون من البنت الصغرى (الولايات المتحدة) التي تركت بريطانيا تستنزف نفسها إلى آخر المطاف في كلا الحربين، حيث كان رأي التيار الانعزالي اليميني الأمريكي «إننا هنا، قارة بموارد لا محدودة، ولا نحتاج إلى الأوربيين الذين هربنا من جحيمهم، ولا مصلحة لنا بما يجري بينهم»... لقد طغى هذا التيار الانعزالي من 1919-1940، وفي عام الـ 40 حدث تحول ذهني رعاه روزفلت وهو الدخول إلى الحرب في الوقت المناسب، ساهم في تفعيله الهجوم الذي قامت به اليابان على أراض أمريكية..
ما أقصده، هو أن اليمين المتشدد في الولايات المتحدة أو داخل المؤسسة الحاكمة، أو حزب الحرب الأمريكي الذي يتراكب على الحزبين الرئيسين، يكرر ما فعله اليمين البريطاني من قبله.
اليمين المتشدد هو الذي يقود الولايات المتحدة الآن، وإن استمر على هذا المنوال سيؤدي إلى التهلكة بالمعنى المجازي للكلمة.. أدرك أن أمريكا لا يمكن لها أن تصبح المكسيك مثلاً، أو حتى كندا، ولكن إن لم يُكبح جماح هذا اليمين خلال فترة قصيرة، فهم بلا جدال سينتقلون من مصاف القوة العظمى والمقررة في جدول الأعمال الكوني إلى قوة رئيسة مؤثرة، أو ربما الأولى بين متساوين، لا تقرر وحدها شيئاً، بل ستكون أمام غابة من القوى الأخرى.. لا تتفوق على غيرها باستثناء السلاح النووي وغيره.
• هذا التوصيف يفضي حسب رأيك إلى استنتاج أن السمة الامبراطورية في أمريكا ستتراجع، ولن تنهار؟
ما يجري الآن هو عملية انحسار لا وقوع، لهذا المد الامبراطوري الأمريكي، هناك فرادة فيما يخص الامبراطورية الأمريكية عما سواها من الامبراطويات السابقة.. فهي لم تحاول أن تقيم مشاريع احتلالية أو استيطانية كسابقاتها، وحتى في العراق وأفغانستان، فالأهم بالنسبة لها هو القواعد والنفط.. أن تمسك بأعنة النفط والغاز... (هذا لي بقبض اليد)، وأن تنشر قواعد لها في أرجاء المعمورة تكون نقاط ارتكاز بتدخلات سريعة وناجزة عند الضرورة.
إن لم يوقف هذا المسار الذي لم يحقق إجماعاً لا داخل اليمين، ولا حتى داخل حزب الحرب، ستكون العواقب وخيمة على مشروع الامبراطورية الأمريكية.
جزء كبير من حزب الحرب الأمريكي كان وما يزال يؤمن بالعمل وفق مفهوم «إسقاط القوة»، أو الذهاب بالخصم إلى حافة الهاوية عبر استمرار التلويح بالعصا والتهديد باستخدام القوة، وبالتالي، هذا الخصم سترف جفونه بنهاية المطاف، وسيستسلم... بوش أعاد قولبة وتفعيل هذا الاتجاه، فقد اعتقد وفريقه أنه بغياب الاتحاد السوفييتي سيتفردون بالسيطرة الكونية، وإن قالوا للعالم كن، فسوف يكون!
• تحدثت بعض الشيء عن الصراع بين النخب الأمريكية، وفي مراكز اتخاذ القرار في الداخل الأمريكي، كيف يتجلى هذا الصراع أثناء اتخاذ القرارات الكبرى إزاء الخارج؟!
المؤسسة الحاكمة الأمريكية ليست كتلة صمّاء، هناك أجنحة وتباينات ومراكز ثقل معينة تعبر عن أوزان في المحتمع الأمريكي.. فما هو يمين على سبيل المثال تتعدد ألوانه، في داخل هذا اليمين هناك الواقعي والتدخلي... وهذا ينطبق على المؤسسة ككل، إذ يوجد فيها من هو جامح لاستعمال القوة، وبين من يفضل أن يكون قفازه من حرير، لكن قبضته من حديد. ثمة الكثير من التباينات في الأسلوب والتكتيك...
مثلاً أوباما هو خير معّبر عن المدرسة الواقعية في المؤسسة الأمريكية الحالية يقول: هذا النهج من التفكير مغلوط، مشروعنا الامبراطوري يتفكك وينكفئ ولا يتقدم إلى الأمام..
• هل هذا الكلام – كلام أوباما- يرضي المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وما دور هذا المجمع في اتخاذ القرار؟
دوره أساسي ومقرر، لكن هناك حالة من الاصطراع داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية وقد مضى عليه نحو أربع سنوات ولم يحسم بعد، وتجد له ضحايا يسقطون باستمرار، وما زال على أِشده. المؤسسة العسكرية الأمريكية هي اللب والنواة اللبية داخل ذلك المجمع، هذه المؤسسة عندما ارتطمت بجداري العراق وأفغانستان، ولم تحقق فيهما نجاحاً واضحاً، وهي عموماً فاشلة، ولم تحقق تاريخياً نصراً يذكر، حتى في الحرب العالمية الثانية التي ربما حدثت فيها بعض المعارك المستثناة من هذا الفشل، فالأمريكيون في المسرح الأوربي والشرق الأوسطي دخلوا بخفر متأخرين ومن محور شديد الثانوية قياساً لما عليه الواجب، من أنجز النصر في المسرح الأوربي هو الاتحاد السوفييتي، وليس الأمريكان.
إذاً كسجل تاريخي لا توجد حرب إقليمية خاضتها المؤسسة العسكرية الأمريكية، ونجحت فيها!
• وبعد اصطدامها بجداري أفغانستان والعراق، ما هو حالها وماذا يدور في جنباتها؟
اليوم، ثمة حوار مكتوم ساخن جداً ولم يحسم بعد، وهذا يدخلنا في موضوعة الحرب القادمة من عدمها... وهناك في هذه المؤسسة من يرى أن الوضع هكذا لا يسير بدقة، ولابد من وقفة مع النفس لمراجعة ما حصل، وإعادة الحسابات على مستوى البشر والمعدات، خاصة وأن العراق استنزف الدبابات والعربات والآليات...
داخل المؤسسة العسكرية هناك واقعيون، وهناك (تدخليون)، وداخل النخب السياسية هناك واقعيون وتدخليون بالمعنى اللطيف للكلمة.
• لكن المشكلة أن الجميع، الواقعيين والتدخليين حسب تعبيرك الذي تفضلت به، يقفون عاجزين، ولا يجدون حلولاً للأزمة الاقتصادية – الاجتماعية المتصاعدة في الداخل، ألا يقلل هذا من الهوة بينهم؟
التيار الذي يمثله (أوباما) ملزم مع بداية عهده، أن يبتدع أشكالاً تحسينية للجم هذا الاندفاع نحو الهلاك... كيف يتأتى ذلك؟ لا أعرف! لكن في ظني أن أول ما يجب عمله هو رفع الضرائب، مجتمع يحارب (ضد الإرهاب) على جبهتين والضرائب على الأغنياء محدودة... هذا لا يمكن أن يستمر.
هناك 3 تريليون دولار إنفاق! نحن لا نتحدث عن أرقام عادية.. نتحدث عن أمر شديد الهول، الشرائح الغنية من المجتمع، الضرائب عليها محدودة، ليست الحال اليوم كما كانت في الماضي 70 % 80 %، الآن أكبر ضريبة على هؤلاء لاتتعدى 25 - 30 %. كما لابد أن يقوم أوباما بابتكار أشكال من رفع الفوائد بحيث يجعل من هبوط الدولار أقل وطأة كما هو الآن، لأن سمعة الولايات المتحدة متوقفة على موضوع الدولار..
ذات يوم من نوفمبر 67 وقف ويلسون رئيس وزراء بريطانيا باكياً في مجلس العموم وقال: «إنه يوم مؤلم في حياتي لكني شديد الاضطرار له، أودكم أن تهدؤوا وتسمعوني... أنا مضطر أن أعلن تعويم الجنيه الاسترليني»... هذا اليوم آتٍ على مستوى الدولار.
• إنك تتحدث، وكأنك على يقين أن أوباما سيصبح رئيساً للولايات المتحدة؟!
كنت في أحد المؤتمرات وسئلت عن ترشيحه، وعن السيناريوهات التي قد توقفه عن الوصول إلى سدة الرئاسة ، فأجبت:
1 - أن يقتل وهذا ما لا أراه، لأنه قد يتسبب بحرب عرقية في الداخل الأمريكي.
2 - أن تزوّر الانتخابات، وهذا ما أستبعده بمعناه الواسع.
3 - أن يحصل حادث أمني جلل في الولايات المتحدة الأمريكية..
4 - أن يقبض على أسامة بن لادن، لأن هذا سيصب بمصلحة (ماكين)..
5 - حرب شبه ناجحة (على الأقل) على إيران..
• أمام هذه الأزمة المستعصية ذات الرأسين، رأس الدولار الذي يترنح وأخطار التعويم التي تتهدده، ورأس الانتشار العسكري الهائل في جهات الأرض الأربع، ما الذي ينتظر الولايات المتحدة، وما هي خطوتها التالية خاصة وأنهم لا يقبلون بأقل من امتلاك النفط؟
المشهد العام للواقعية الأمريكية يتجه بإطار الخروج من العراق... ولكن هذا لا يعني الخروج دون أي أثر لنفوذ، بل الخروج من الحالة العسكرية الامتدادية.
أما القبض على النفط باليد وليس بالتضرع، فليس بالضرورة أن يحسم بالقوة العسكرية... يمكن أن تستبدل الولايات المتحدة الاحتلال العسكري (السافر) باحتلال الشركات بما يشبه ما حصل مثلاً ما بين 21 إلى 58، حيث كان هناك نظام تحالف، فيه شيء بين الخفر والصراحة، وله استقلالية ذاتية بعض الشيء، إنما المصالح الطاقوية لها الأولوية المطلقة. بتقديري الفئوية السياسية الصاعدة أو الحاكمة في العراق راضية بذلك، لأنهم يشعرون أنه لكي يمسكوا جيداً بأعنة السلطة، ويحافظوا على استدامتها، لابد لهم من خفض جناح الذل والمسكنة، وبالتالي نرى حسين الشهرستاني هو الذي يقود عملية إدخال شركات النفط الكبرى إلى العراق... كلما قبضت الفئوية السياسية على مقاليد الحكم بشكل أمتن، كلما أرادت التخفف من القبضة العسكرية الأمريكية فوق عنقها، مقابل أن تترك لهم حيزاً للسيطرة على النفط.
الواقعيون في أمريكا، كما الحال مع الفئوية السياسية الحاكمة، لا يريدان هذا المغطس. التدخليون يقولون إذا خرجنا فالطوفان من بعدنا، ويستذكرون موضوعة فيتنام، هذا قلب العالم العربي، ماكين ومن يمثله يتحدثون بهذه المقولة، وللجواب عن سؤالك كيف يقبض على النفط ويترك القوات خارجاً، هو مضطر لذلك، ويريد استخلاص أفضل الشروط الممكنة للخروج من الباب، ولكن البقاء على الأرض بشكل (شركاتي) بمعنى آخر احتلال اقتصادي طاقوي.
• هذا مشروط بأن تتحول كما ألمح بذلك الرئيس (ماديفديف)، أن تعترف أمريكا بأنها ليست القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
هناك مقال لواحد من أهم منظري الواقعية الأمريكية، ريتشارد هانز (عالم بلا أقطاب) يقول فيه: ستكون بالفعل هناك حالة من الديناميكية والتدافعية والسيولة للقرارات الكونية، مختلفة، فيها قدر كبير من التخلق. وهذه فرصتنا كعرب وكمسلمين.
• هذا يقودنا إلى علاقة الولايات المتحدة مع الحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي والثماني الكبار، وما يقال الآن عن إقامة اتحاد متوسطي، والعلاقة اللاحقة مع روسيا.. كيف تقيم طبيعة العلاقة الأمريكية مع كل هذه الدول والتكتلات؟
رجالات المؤسسة الحاكمة الأمريكية بكل تلاوينها مهووسون بالقيامة الروسية. بالنسبة لهم روسيا ليست فقط خطراً محتملاً، بل خطر دائم. هناك درجة من الهوس بموضوعة روسيا، وهم حثيثو الخطى نحو كيفية محاصرتها وتحجيمها؟ إحساسهم هذا له علاقة بطبيعة روسيا كدولة أوراسية. هي عالم العرب والمسلمين والصين وروسيا والهند إن شاءت، وإن تخلصت من السفه الكومنولثي. ما أقصده أن أوراسيا هذه، روسيا هي واحدة من أهم مفاصلها، وهي تتصف بالعزة والتاريخ التليد، والموارد اللامنتهية، والبنية العلمية الهائلة. أما مفاعيل ذلك على الأرض فهناك تراجع ميداني، إنهم يتسولون الجنود تسولاً..
• هل هناك الاهتراء الذي تتحدث عنه في الحلف الأطلسي كقوة عسكرية، وعدم كفاية الحاجات والمتطلبات العسكرية الأمريكية يكرسان مأزق الولايات المتحدة وحلف الأطلسي عموماً، ما معنى الطروحات الأوربية في هذا السياق، وخاصة فكرة «الاتحاد من أجل المتوسط»؟
الاتحاد المتوسطي هو ليس بالضد مع المشاريع الأمريكية. هو نوع من تقسيم العمل الوظيفي. لقد أوكل لساركوزي موضوعة المغرب العربي.. ثمة عملية تطبيع يقودها ساركوزي ضمن أجندة متفق عليها مع القوى الإمبريالية.
• مساع فرنسية ذاتية ذات بعد استراتيجي لملء الفراغ فيما لو انسحبت أمريكا؟
انتهى عصر ديغول... وقد كان الشاذ في فرنسا وليس القاعدة. الذهنية اليمينية الفرنسية العنصرية تشكل السواد الأعظم من الجمهور الفرنسي اليوم، وقد كان الحال كذلك إبان الاحتلال النازي حيث لم يفعّل المقاومة سوى الشيوعيين، وهذه الذهنية اليمينية هي السائدة اليوم.. الفرنسيون يعيشون على أوهام فرانكوفونية دون أن يكون لهم أي تاريخ يعتد به.
• في الانتقال لموضوع آخر، الأمريكان استعانوا بحلف الأطلسي في أفغانستان، كما استعان الإنكليز في الحربين العالميتين بالأمريكان، والأمريكيون استعانوا بإسرائيل للقيام بعدوان تموز 2006، ما المعنى التاريخي والمعاصر لكل ذلك؟
حرب تموز مفصل يفهمنا ما يحصل اليوم، قيمتها إنها أوضحت مصاعب المشروع الأمريكي، لكنها لم تصل بعد لاستثمار مفاعيلها كاملة..
هناك في أمريكا من يقيم العلاقة مع إسرائيل بقوله: نحن أوكلنا لكم (لإسرائيل) مهمة، لكنكم أصبتم بفشل ذريع، ما العمل؟! نحن نجهزكم لتكونوا الوكيل الإقليمي بامتياز للإمبراطور، رأيناكم بـ 91 أو حتى بـ 2003 لا تستطيعون تنفيذ المهمات لوحدكم، وكان أداؤكم سيئاً كلياً، لذلك اضطررنا للحضور بأنفسنا وبأساطيلنا... من هنا تقرأ كتاب «موشي ماير»، و«وايت» حيث يقولان: نفوذ اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة نفوذ جامح ومفض إلى اتباع سياسات مهلكة.. حتى عام الـ67 لم يكن في أمريكا شيء اسم الهولوكوست، لكن بعد انتصارات (إسرائيل) في حزيران 1967 تحول ذلك إلى صرعة أو إلى جنون.. وهذا برر دعمهم اللامحدود لإسرائيل بالغرس في قناعة النخب الأمريكية فكرة إن إسرائيل لا تمس.. وهي رصيد استراتيجي لأمريكا... وضرورة مساعدة الدولة التي تمثل البقية الناجية من هذه المحرقة.. هو تمكين إيديولوجي لمشروع سياسي. المؤلفان من أعقل عقلاء المؤسسة، ابتدأا يلقطان علائم وإشارات وهي أنه في اعتماد المؤسسة الحاكمة للمشروع الوظيفي الإسرائيلي في المنطقة فإنهم في غيهم يعمهون.. فأنتم لا تقدرون أن تعتمدوا على فعالية ونجاح هذا المشروع الوظيفي المناطقي.. أما حرب الـ 67 فقد كانت استثناء تاريخياً وليست القاعدة..
نجاح الصهاينة في الـ67 رفع المشروع الإسرائيلي إلى مصاف القدسية عند الأمريكيين، فيما حرب تموز زرعت عند بعض عقلاء العقلاء أن هذا المشروع سيدخل في نفق مظلم، ونحن نخسر أكثر من مليار مسلم.. منهم أكثر من ثلاثمائة وعشرين مليون عربي، وهذا بحر لا ينتهي.
أما كيف سيؤسسون بكلامهم لخلق قاعدة إيديولوجية فهذا أمر قد يطول.. يقولون: إسرائيل راكبة على ظهرنا وآخذة بقرارنا، وتقودنا إلى مهالك، لذلك يجب أن نعيد إسرائيل إلى حجمها الطبيعي دولة عادية شرق أوسطية ولا يعوّل عليها، لذلك يجب تخفيف هذا العبء بتطبيع علاقاتها مع العرب، والعمل على خلق نوع من العلائق المعقولة في العالم العربي والإسلامي.. وأنا أسمي ذلك (الصفقة الشاملة) بين معسكر ممانعة أثبت جدارة، وبين قوة تبدو على السطح إلى الآن أنها ما زالت القوة الأهم... وهذه الصفقة تمتد من طهران إلى غزة. فيها توضع معادلة جديدة تشبه قسمات فترة ما بين 58 – 63 التي انتهت بمصرع كنيدي.. وحصل فيها اعتراف أمريكي (واقعي)، أن هناك حركة قومية عربية، وأنه ينبغي توفر درجة من التعايش، وبرأيي أن أحد أسباب مقتل كندي يرتبط بهذا الموضوع. الصفقة الشاملة هذه، البعض هنا يشعر أنها أصبحت ناجزة. أنا لا أراها ناضجة بعد، ولا ناجزة. وفي العموم فإن النخب السياسية والمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة ينشأ بينها شد وجذب عن كيفية التعامل مع غرب آسيا، التي هي المفتاح الأهم لجزء من المعمورة الذي هو (أوراسيا)، ومفتاح غرب آسيا هو إقليم الشام، ومفتاح مفتاح المفتاح هو سورية، ومن هنا أهمية سورية التي جزء كبير من أبنائها ونخبها لا يقدّرون قيمتها.
• الآن لابد من الحديث عن الوضع الإقليمي.. نحن نعتقد بأن ما يجري من تهدئة الآن، هي تهدئة واهمة بهدف الإعداد لموضوع أكبر، وهو ضرب إيران. هناك علاقة بين ضرب إيران وما يجري من حديث عن التهدئة.. لأنها معطى كعنوان، بينما على أرض الواقع تهويد الأرض قائم في فلسطين. وفي لبنان يجري قضم للحالة الوطنية بشكل متواصل.. وفي العراق يجري الحديث عن التهدئة وفي الحقيقة يجري التجهيز للسيطرة على النفط... إذا كان هناك جبهة ممانعة ومقاومة، ونحن نقرّ بذلك، فيجب من وجهة نظر الأمريكيين فك عرى التحالف بين عناصر هذه الجبهة.. على هذه الأرضية كيف ترى الوضع في الإقليم، وما دور خيار المقاومة والشارع العربي؟!
كسياسة أمريكية عامة، لم يتغير شيء، هناك نوع من السيطرة على الإقليم.. ومحاولة السطوة على مصيره ككل وتوكيله مع الوقت إن نجح لإسرائيل. فسياسة الوكلاء المعتمدين ماتزال قائمة عبر كل العالم كاليابان وتركيا وبريطانيا وإسرائيل والهند...
الملفت أن أي مشروع امبراطوري تاريخي، كانت الأطراف هي التي تغذي المركز، في الحالة الأمريكية الأمور معكوسة قليلاً، إذ ترى أن المركز يغذي الأطراف... ويحاول أن ينهض بها.
مثلاً خذ الموقف من المفاوضات السورية – الإسرائيلية بوساطة تركية، الولايات المتحدة في العمق هي مؤيدة ومباركة، ولكنها لم ترغب أن تعلن ذلك التأييد لسبب واحد: هو أن القوى التابعة لها في الإقليم قد لا يعجبها ذلك، لرغبتها الحميمة في إسقاط النظام السوري، وهنا نعني بالتحديد آل سعود.
بمعنى آخر: تردّي أحوال الولايات المتحدة يجعلها تنصت إلى أتباع لها، فهم يشعرون أن هذا المشروع الأمريكي أن ترك يسقط فيسقطون.. هم عكس كل الشائع أن تنتصر.. وأن تقفز على إيران!!
آل سعود يدفعون باتجاه ضرب محور الممانعة بكل قوتهم.
الثالوث الذي تمثله المؤسسة الأمريكية الحاكمة ككل، مع امتدادها الإسرائيلي، والتبعوي العربي... هذا الثالوث يود أن يبتدع أشكالاً من درء المخاطر المقبلة عليه، هناك سباق بين القدرة والرغبة، بين واقعي يقرأ الصورة بشكل أفضل وآخر متمسك بأدواته وأفكاره (الحربجية) ذاتها. نحن الآن بمرحلة من البلبلة، ولا أدري لمصلحة من ستحسم المعركة. إننا الآن في مرحلة البرزخ.
• لكن تغيرات المؤسسة العسكرية التي جرت مؤخراً، تعطي مؤشرات كبيرة وخطيرة حول غلبة خيار الحرب..
ليس تماماً، فالاصطراع الداخلي الأمريكي مازال قائماً، ورئيس الأركان الحالي الذي ذهب إلى إسرائيل مؤخراً.. خرج بانطباع غير مرض تماماً للأمريكيين..
• واضح من سياق التحليل أن إسرائيل والتبعية العربية في عجلة من أمرها لضرب إيران خشية تزايد الدور الإيراني الذي من وجهة نظرهم، سيقضم كل ما لهم من أدوار في المنطقة، أما أمريكا فخوفها يتأتى من كون النفط العراقي غير كاف لإنقاذ المشروع الأمريكي.
المهم في إيران ليس القدرة النووية، الإيرانيون يريدون الخيار الياباني - البرازيلي، أي امتلاك القدرة على صنع القنبلة لكن دون تصنيعها كما فعلت باكستان، (إيران – النظام – القدرة النووية) عند حلف الأطلسي لا تجتمع معاً، أزِل النظام لا مانع! أما أن تترك إيران - النظام التي هي بين قزوين وبين الخليج والتي تتمدد في الشرق المتوسط وتصنع القرار بالموضوع العربي الإسرائيلي.. وتملك السلاح النووي، فبالتأكيد: لا.
إيران بالنسبة لهم تتبع سياسات (القومية العربية)، فمن هي (من وجهة نظرهم) حتى تتدخل في الصراع العربي الصهيوني؟ من هي حتى تؤذي (وكيلنا المعتمد) في المنطقة؟
وهذا الوكيل لا يثبت، مع قدرة نووية موجودة بدولة معادية كإيران، سيكون هناك هروب منظم للنخب الإسرائيلية إلى الغرب.
• ماذا تقول لبعض مدّعي الثقافة في الوسط العربي الذين يتحدثون عن أن الخطر الإيراني أكبر من الخطر الإسرائيلي.
أقول فيهم ما لا يقال!! لاشك أن الإيرانيين هم أصحاب مشروع تأثيري على مستوى قاري متعدد المناحي، وعالم الإسلام والعالم الثالث ساحة فسيحة لنكون فيه دولة بارزة، ولكن هذا المشروع لا يتحقق إلا مع حليف عربي... وهو سورية. فلسورية إطلالة على المسرح العراقي، وهناك احتكاك إما بإشارات سلبية أو إيجابية... لذلك كان عليهم التفاهم مع السوريين، أنت كإيراني إذا حملت الراية الإسلامية يجب أن يكون معك شريك عربي، ففي النهاية قلب العالم الإسلامي هم العرب.
• أخيراً، ما هي رؤيتك للعلاقة التركية الأمريكية؟ والدور الإقليمي التركي في المنطقة؟
الأمريكان بنوفمبر 2002 كانوا أول المهنئين والمحفزين لأردوغان بفوزه في الانتخابات التركية، وفي هذا الصدد هناك دراسة جيدة لزوجة زلماي خليل زادة صدرت بـ 2004 تقول: إن الأتراك إن تقمصوا الدور جيداً ولم يكرروا موقفهم (الهفوة) من احتلال العراق.. إن عرفوا أن يلعبوا الدور جيداً فهذا النموذج في الحكم هو الأقل سوءاً في العالم الإسلامي.. والحقيقة أن الأتراك يقومون بدور مرض للغرب، وخاصة في انفتاحهم على إسرائيل.. إن محك قبول أوراق اعتماد أي حاكم تركي لدى المؤسسة الأمريكية الحاكمة هو الموقف من إسرائيل...
تركيا ليست دولة سهلة في نهاية المطاف.. ثمة فضاءات لها يمكنها العمل فيها بحرية بشرط عدم التعارض مع السياسات الغربية. الأتراك بشقيهم العسكري والسياسي، لم يتجاوزوا السقف حتى الآن، حتى في علاقتهم مع سورية، الولايات المتحدة تشعر بأن هذا نوع من العلاقات والتطبيع السوري التركي يمكن أن يعادل التقارب السوري مع إيران..