الافتتاحية موسم الخداع والتضليل
في مطلع القرن العشرين كان الاستعمار يسيطر على البلدان عسكرياً، ثم يبدأ بالسيطرة على العقول والنفوس في معرض تبرير جرائمه بحق الشعوب. أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومع ظهور أطروحات مثل: «النظام العالمي الجديد ونهاية التاريخ والعولمة، والشرق الأوسط الكبير»، فقد تغيرت المعادلة من حيث الأولويات، بحيث تحولت الحرب الإعلامية ـ النفسية الإمبريالية ـ الصهيونية إلى أخطر سلاح هجومي لغسل الأدمغة وتغيير القناعات قبل العدوان المباشر، وصولاً إلى تفتيت الأوطان وتحطيم الوحدة الوطنية من الداخل لأي بلد يستهدفه العدوان الإمبريالي ـ الصهيوني لاحقاً..
قبل وبعد احتلال العراق، تعرضت شعوب منطقتنا لأضخم حرب إعلامية ـ نفسية، مغلفة بمفاهيم «التغيير والديمقراطية والازدهار الاقتصادي والقضاء على الاستبداد.. الخ»، وكل ذلك كان لإخفاء حقيقتين أصبحتا الآن بمنتهى الوضوح، وهما:
1 ـ إيجاد مخرج من تفاقم الأزمة البنيوية الاقتصادية للإمبريالية الأمريكية عبر الحرب التي هي الرئة الحديدية التي يتنفس منها الاستعمار.
2 ـ السيطرة على موارد الطاقة العالمية، بل امتلاكها بشكل مباشر، والانتصار على منافسي الإمبريالية الأمريكية الكبار الحاليين واللاحقين. ومن هنا جرى الترويج الإعلامي الهائل لمصطلح «الشرق الأوسط الكبير».
لكن حساب السرايا لم ينطبق على القرايا كما يقال، حيث بدأ المشروع الأمريكي يتعثر في آجاله الزمنية وفي الخسائر البشرية، منذ أن بدأت المقاومة العراقية الحقيقية في مواجهة قوى الاحتلال على الأرض، ومع صمود وازدياد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية بأساً وشعبيةً وجماهيريةً ضد الاحتلال الصهيوني، وكذلك مع فشل التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني في ضرب سورية عسكرياً، أو فكّ علاقاتها الاستراتيجية مع إيران. ويضاف إلى كل ذلك عامل آخر سيصبح الأهم في الآتي من الأيام، وهو دور الشارع العربي الذي يقاتل تاريخياً على جبهتين؛ الأولى ضد حكامه الذين نهبوا لقمة عيشه وتحولوا إلى خدم ومنفذين للسياسة الأمريكية في المنطقة، والثانية ضد المشروع الإمبريالي ـ الصهيوني بوصفه أكبر خطر يستهدف كل شعوب المنطقة دون استثناء.
وبعد أن تبين بوضوح أن احتلال العراق، وكذلك الاستعانة العسكرية بالكيان الصهيوني، والاستفادة بالحد الأعلى من دول الاعتلال العربي، لم يخفف من عمق الأزمة الإمبريالية الأمريكية بمعناها الاقتصادي والسياسي والعسكري؛ بدأت الإدارة الأمريكية ومن يضع قرارها في الظل بالبحث عن مخرج من الوضع المتأزم والضاغط عليها في مختلف الصعد.
فمنذ أشهر بدأ موسم الخداع والتضليل عبر حملة إعلامية ـ نفسية يقودها الإعلام الإمبريالي ـ الصهيوني والرجعي العربي، ولعل أكبر أهداف هذه الحملة، هو إقناع شعوب المنطقة بأن الإدارة الأمريكية وحليفتها «إسرائيل الصهيونية» يرغبان في «التهدئة» والتوصل إلى «حلول سلمية» لكل أزمات الشرق الأوسط..
اللافت في محاولات «التهدئة» هذه، أنها تجري الآن في الشطر الغربي من جغرافية «الشرق الأوسط الكبير» حيث حققت المقاومة والممانعة ضد التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني أكبر الانتصارات. ومن هنا لم تُطرح هذه «التهدئة» في لبنان إلا بعد انتصار المقاومة في حرب تموز 2006 ضد العدو الصهيوني، وبعد أن تغيرت موازين القوى على الأرض لغير صالح فريق 14 شباط رغم كل ما جاءه من دعم دبلوماسي، سياسي، وإعلامي..
وفي فلسطين، لم يكن وارداً استخدام مصطلح التهدئة إلا بعد صمود المقاومة الفلسطينية باللحم الحي ضد الحصار والتجويع والمجازر بحق الأبرياء، وكذلك بعد فشل فريق السلطة بإقناع الشعب الفلسطيني بـ«أفضلية المساومة» لاسترداد الحقوق كاملة!
أما في العراق، فتحاول إدارة بوش إقناع الشعب العراقي بأن لا خروج من «الفصل السابع» ومن السيطرة العسكرية الأمريكية المباشرة عليه إلا بـ«اتفاقية أمنية» تقونن وجود الاحتلال عسكرياً واقتصادياً فيه إلى آجال بعيدة. لكن الشعب العراقي البطل لم يكتف برفض الاتفاقية، بل فرض على الحكومة العميلة التراجع عن الاتفاقية تحت ضغط المظاهرات الجماهيرية في كل أنحاء العراق.
وعلى الجبهة السورية التي رفضت الإملاءات الأمريكية، يلجأ التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني إلى لعبة الترغيب والخداع سواء برضوخ الكيان الصهيوني، حتى ولو من باب الإعلان الإعلامي حول الخروج من الجولان، أو بطروحات إشراك سورية في «الاتحاد المتوسطي»، وكل ذلك بالتوازي مع تكرار المطالبة بتخلي سورية عن علاقاتها مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية. ورغم تجديد رفض سورية العلني لتلك المطالب والإملاءات، مازالت محاولات خداع سورية قائمة على جدول التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني، والذي لن يغير من مخططاته العدوانية ضدّ بلدنا سورية!
إن «فيروس التهدئة» الذي انتشر حالياً في المنطقة، هدفه ترتيب الأوضاع وإعادة خلط الأوراق تحضيراً لعدوان جديد وتوسيع رقعة الحرب، إن لم يكن فيما تبقى من أشهر لإدارة بوش، فسيكون في عهد الإدارة الأمريكية القادمة، لأن جوهر الصراع لم يتغير، والفرز في المنطقة قائم بين من هو مع المشروع الأمريكي المتوحش، وبين من يقاومه، والذي سيكون النصر التاريخي حليفه عبر خيار المقاومة الشاملة!