من المقصود دهسه بـ«شاحنة نيس»؟
توقف عداد القتلى في مدينة نيس الفرنسية ظهر اليوم الجمعة عند رقم 84 قتيلاً، إضافة إلى 100 جريح بعضهم في حالته خطرة، ولكن ما يثير الأسف حقاً، وكما هي الحالة مع هذا النوع من الجرائم، هو أنّ الضحايا يتحولون فعلاً إلى أرقام..
عملية تحول الضحايا إلى أرقام ترتكز إلى الحقيقة التي لا تقال كثيراً، وهي أنهم ليسوا المستهدفين.. هم فقط جزء أساسي من ديكور الحدث!
إنّ التعاطي مع الأعمال الإرهابية بهذه الطريقة، هو التعاطي الجدي الوحيد، لأنّ وسائل الإعلام الكبرى، والغربية بشكل خاص، اعتادت تحويل كل حدث إرهابي جديد إلى مناسبة للتفجع والنحيب الذي يغدو هو نفسه ديكوراً وحاشية للرسالة السياسية التي تريد تلك الوسائل تقديمها.. والتفجع نفسه يظهر هنا بوصفه امتداداً للأداة الإرهابية التي قامت بالفعل.. فالإرهاب لا يغدو إرهاباً إلا حين تلتقطه العدسات وتلقيه على الناس من نوافذ شاشاتهم.. بذلك يكون الإرهاب مرهباً.
إذا تركنا جانباً حديث التفجع والنحيب والترهيب لندخل في صلب المسألة، فإن المدخل الأول هو: القول أن المستهدف ليس من تم دهسهم بل أولئك الذين شاهدوا هذه العملية.. رغم ذلك فإنّ الحديث لا يزال على السطح ويحتاج إلى المضي أعمق من ذلك..
إنّ جملة الأعمال الإرهابية التي ضربت أوروبا خلال العام الماضي، والتي نتوقع للأسف أنها لم تنته بعد، تؤدي جملة من الوظائف:
بالدرجة الأولى: إنّها تشكل تهديداً مباشراً لمختلف دول أوروبا بأنّ من يحيد منها عن النهج الأمريكي، أو يفكر في الابتعاد، فإنّه سيجد بلده عرضة لحريق من النمط الفاشي الجديد.. هذا التهديد يشمل تركيا وألمانيا وفرنسا وغيرها.
بالدرجة الثانية: فإنّ أفعالاً من هذا القبيل، تؤمن للنخب الحاكمة فرض حالة الطوارئ، وضبط حراك الناس المطالب بالحقوق المعيشية وبتغيير الوضع الاقتصادي والسياسي لبلدانهم، بل وحتى بتغيير المنظومة الاقتصادية الاجتماعية التي يعيشون ضمنها، وذلك كله على خلفية الأزمة الرأسمالية الشاملة والعميقة التي تضرب في العالم بأسره، وفي أوروبا ضمناً..
ورغم أنّ ما سنقوله تالياً، ربما يبدو «مؤامراتياً» أكثر من اللازم، إلّا أننا نعتقد أنّه يستحق التفكير: لماذا استخدام «تكنيك الدهس»؟ لا شك أنّ هذا «التكنيك» مرعب، ولكنه ليس أقل إرعاباً وترهيباً من التفجيرات أو الاعتداءات المسلحة المباشرة، كما أنّ الأعداد التي خلفها من الضحايا، كان يمكن أن تسقط باستخدام «التقنيات» الأخرى.. فلماذا الدهس، وهو الذي لم يستخدم سابقاً في سياق الأعمال الإرهابية؟
الدهس تم استخدامه من جانب المقاومين الفلسطينيين في انتفاضتهم المستمرة حتى الآن، وإنّ إعادة استخدامه لأغراض دنيئة كما في نيس ليست بريئة على ما نعتقد.. فعمليات كهذه تدرس وتحضر بجوانبها الإعلامية- النفسية أكثر بكثير مما تدرس بجانبها التنفيذي، فهذا الأخير هو الأسهل طالما ترعاه أجهزة استخبارات دولية كبرى (نزعم سياسياً) أنّ الاستخبارات الأمريكية في مقدمتها..
ولما كانت الفاشية الجديدة ممثلة رأس المال المالي الإجرامي، ولما كانت الصهيونية مكوناً أساسياً ضمن رأس المال هذا، فلا ضير بتحقيق «هدف ثانوي» ضمن العملية نفسها، هو الإساءة إلى انتفاضة الشعب الفلسطيني في وقت يعيش فيه الكيان أزمة مستعصية.
وينبغي التأكيد هنا أنّه هدف ثانوي وليس الهدف الأساسي، فالهدف الأساسي وكما أشرنا يتعلق بالموقف الأوروبي من روسيا، وباحتمالات الاستدارة بعيداً عن الحظيرة الأمريكية، والتي بات الطريق إليها مفتوحاً بالمعنى الموضوعي، وإن كان مزروعاً أمريكياً بالمفخخات والانتحاريين، مع ذلك فهو طريق إجباري على ما يبدو..
إنّ المراد دهسه في نيس، هو ذاته المراد تفجيره في مطار اسطنبول وفي أنقرة، وفي بروكسل، وهو ذاته أيضاً المراد الاعتداء عليه في ألمانيا.. إنّه المسار الموضوعي باتجاه عالم جديد تنكسر فيه إرادة واشنطن وسطوتها..