السيرورة التاريخية المستمرة والكامنة خلف الكواليس!
محمد المعوش محمد المعوش

السيرورة التاريخية المستمرة والكامنة خلف الكواليس!

بعد التراجع السياسي الذي عاشته قوى التغيير الاجتماعي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وانكفاء وتقوقع وتحول أقسام منها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتغيُّر المؤقت لموازين القوى، والتقدم النسبي لقوى رأس المال العالمية، انفجرت تناقضات الإمبريالية مجدداً، وانطلقت حركة اجتماعية- سياسية كان من الضروري لها أن ترفع إلى الواجهة الصراع الفكري بملامح ومفاهيم وقضايا جديدة، ضمن قوى التغيير نفسها، أو بينها وبين القوى من المواقع الفكرية والاجتماعية والسياسية المختلفة. 

عنوان هذا النقاش هو طبيعة المرحلة والقوى الكبرى الفاعلة في حركة التاريخ فيها، وآفاقها، ومعاني الظواهر التي تطبع العالم بملامحها.

الصراع الفكري يتصدر مجدداً

سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي جملة من «المسلمات» النظرية- السياسية، على شاكلة نهاية التاريخ وأبدية الرأسمالية وقدرتها «الفريدة» على تجديد نفسها. ولكن انفجار الأزمة المالية عام 2008 وانعكاساتها على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي عاد ليهدد علانية النظام العالمي بطابعه الإمبريالي ككل، مؤكداً بأكثر الأشكال فظاظة وقسوة انحطاط نمط الحياة الرأسمالي بمعالمه كلها، صارت الفكرة الغالبة (لدى مختلف أقطاب الصراع من قوى ثورية أو قوى السيطرة العالمية) هي أن العالم يتغير، وأن الإمبريالية تتراجع، وأن عالماً جديداً يتكون مكان القديم. وهكذا فقد تبين أن محاولات إزاحة وإنهاء الصراع الفكري حول مدى صلاحية النظام الرأسمالي وحول ضرورة نسفه وتبديله عالماً جديداً، لم تنجح ولم تكن سوى لحظة نشوة عابرة عاشتها القوى الإمبريالية قبل أن تصحو على تعمق وتجدد أزماتها.

«فكرتان»

هنالك فكرتان تحاولان احتلال الفضاء الفكري للتشويش على الجديد الذي يولد، وذلك بعد أن سقطت فكرة السيطرة المطلقة للإمبريالية (والتي يتم اختزالها إلى سيطرة دولة ما ضمن النظام الإمبريالي للتعمية).

الفكرة الأولى هي: أن الامبريالية المتراجعة التي يجري الكلام عنها هي طرف واحد في المحور الإمبريالي، وتراجعه ليس تراجعاً للإمبريالية كنظام، ولكن يمكن بتراجع هذا الطرف (والمقصود هو الأمريكي)، تقدم أطراف ودول جديدة لموقع السيطرة ضمن النادي الإمبريالي (والمقصود هنا هي روسيا والصين).

هذه الفكرة تستخدم اليوم كرأس حربة في الخطاب السياسي-الإعلامي لمواجهة الواقع الجديد، والذي بدأ بحكم تسارع أحداثه يبرهن خطأها لناحية المعارك التي تخضوضها القوى الجديدة، وما تعمل على إرسائه من أنماط علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية جديدة متناقضة مع علاقات الإلحاق والتبعية الإمبريالية.

أما الفكرة الثانية، الأكثر «لطفاً»، فهي: القائلة بأن عالماً جديداً «متعدد الأقطاب» يولد، دون أن يجري الحديث ولو بكلمة إضافية واحدة تصف هذا «العالم الجديد المتعدد الأقطاب»! إنّ طرح القضية بهذا التبسيط يجعل من الصعب على قوى التغيير أن تحدد على أساس مادي واضح موقفها من الأقطاب التي برزت بقوة على مسرح التاريخ كروسيا والصين، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً..

سنتجاوز هنا التوصيف القائل بإمبريالية روسيا والصين، وهو المستخدم أساساً لتشتيت قوى الاعتراض الشعبي العالمية الناقمة على العالم الاستغلالي كما أرسته القوى الإمبريالية (أميركا ومن قبلها بريطانيا وفرنسا) والآلام التي نتجت وتنتج عنه، وللتعمية على الصراع ومعناه السياسي والتاريخي، بهدف التركيز على فكرة «تعدد الأقطاب» وما فيها من عدم تحديد لآليات الصراع وقوانينه اليوم.

السيرورة التاريخية

في نقاش فكرة «تعدد الأقطاب»، وصيغتها غير المحددة، تظهر إلى السطح فكرة ضمنية عن النظرات غير التاريخية إلى الأقطاب الصاعدة، وكأنها جديدة في التاريخ، أو كأن الصراع الذي يخاض عالمياً توقف على مدى عدة عقود، وزال، وعاد من جديد على أرضية ليست استكمالاً لسيرورة واحدة مترابطة هي القطع مع الإمبريالية!    

السيرورة التاريخية التي يجب التأكيد عليها هي أن الإمبريالية لم تترك الساحة خلال العقود الماضية لنظام «أعلى» ما فوق إمبريالي، أو «آخر» غير محدد، بل ما تزال تسعى للبقاء ضد اتجاه تاريخي عام يناقض إمكانية استمرارها، تبلور سابقاً على شكل حركات الثورات السابقة (روسيا، الصين، كوبا، فييتنام...) ويجري اليوم استكماله عبر الصراع الجاري، وعلى أساس ما أنجز في مرحلة الصعود الثوري في القرن الماضي. وذلك بغض النظر عن إرادة أو رغبة الروس أو الصينيين أو غيرهم!

من نتائج المرحلة الثورية السابقة أنها جعلت من الممكن لمجموعة دول أن تراكم قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وتطوراً في مختلف الميادين جعلها قادرة على انتزاع مواقع لها في العالم، وطوال العقود الماضية لم يكن هذا الانتزاع دون صراع، وإن كان يحصل بأشكال أكثر «هدوءاً» في طابعها الظاهر (دون نفي الحروب المتنقلة منذ التسعينات في مختلف أنحاء العالم، من تخوم روسيا والصين إلى العالم العربي وإفريقيا وأميركا اللاتينية، من دون ارتباط روسي صيني كما الشكل البارز اليوم في الأحداث العالمية).

ترابط كامل

كان لتفاقم تناقضات الإمبريالية أن عَظَّم من التمايزات ما بين القوى العالمية، ورفع من حدة الفرز ومعانيه السياسية والاقتصادية، فكانت القوى التي لا تعتمد على علاقات التبادل اللامتكافئ وأنماط النهب وتحقيق النمو من خلال الأدوات المالية هي من القوى التي كان تحقق صعوداً في اعتمادها على الاقتصاد المخطط والمنتج والموجه والممسوك بشكل كبير من الدولة، وبشكل بارز تظهر الصين في نقلات علمية وتكنولوجية واجتماعية كبيرة.

فكان لتداخل العالم وترابطه العالي في العقود الماضية على المستويات كلها أن أعطى لهذه الدول الصاعدة شكل المصير المشترك والموحد، مع شعوب العالم المضطهدة ككل، أرادت ذلك أم لم ترد، وعته أم لم تعه. إن لفكرة التداخل والترابط هذه ولكون هذه الدول تتحرك لانتزاع مواقع لها في العالم بأشكال مواجهة لسيطرة الإمبريالية أعطى لطابع مواجهتها شكلاً أقل جذرية من حركات القطع السابقة، والتي لم تكن خالية بدورها من أدوار اقتصادية وسياسية واجتماعية عالمية ضمن التجارة والاستثمار وإن بشكل أقل بروزاً كما لروسيا والصين اليوم، وما «بنك التنمية الآسيوي» ومجموعة دول «شنغهاي» و«بريكس» إلا ظواهر ملموسة لعملية القطع مع نمط التبعية الإمبريالي اقتصادياً وسياسياً، في تحرك هذه القوى الصاعدة بمسار تنمية مواجه للأزمة المالية من خارج آليات التبادل اللامتكافئء.

إنّ الخطوات الإجبارية التي تقوم بها روسيا والصين وحلفهما بوجه الإمبريالية الأمريكية التي تسعى إلى نسف هاتين القوتين من الداخل وإلى نسف تخومهما، هي بالضرورة دفعات إضافية نحو مقبرة التاريخ، لا للولايات المتحدة، بل للإمبريالية كنظام عالمي.. أي أننا لسنا أمام انتقال بسيط من قطب واحد نحو عدة أقطاب، ولكن أمام انتقال من عالم قديم إلى عالم جديد بكل ما تحمله الكلمة من معنى..

آخر تعديل على الأحد, 10 تموز/يوليو 2016 13:11