ذاكرة النزوح
لماذا أحس دائماً بأنني ولدت هناك، كرم عنب كبير، وسياج من الحور على امتداد أرض منبسطة، وبئر في الوسط بدون سياج ترابي، وفي الظهيرة ماء بارد حتى الركبتين على صخرة ملساء تنام في حضن نهر بانياس.
ولدت في دمشق بعد الخامس من حزيران بثمانية أشهر وعشرين يوماً، وهذا يعني أن قلبي بدأ النبض هناك.. قلبي هناك معلق بحبات البندورة التي تساوي أكثر من كف جدي حين كان يشير إليها في حديثه عن بستانه.. وجسدي هنا موزع على المدينة وريفها في رحلة ضجيج طويلة.
هنا ولدنا، نحن أبناء الذين ماتوا وعيونهم غارقة في بكاء طويل، واشتهاء قبر هناك، خطواتهم التي لم تذروها ريح النزوح بعيداً، وأصواتهم العالية أبناء السهول المفتوحة، وعيون لا يحدها اسمنت متعال، أما أيديهم فمزيج من رائحة الغار والخروب.
مات أبي البدوي على حديثين.. أمه التي ولدته على الطريق من البستان في (جبب الميس) إلى بيت أبيه وسط قرية من أفقر قرى الهضبة، وذكرياته عن الوطن الممتد بين وعر القرى المتناثرة، والحرس الوطني، وضحكاته العالية.
مات أبي البدوي وهو يقول بفرح الطفل العنيد: سنعود يوماً، وسأمشي (أحد نذوره) حافياً إلى (الجبب)، وأغسل وجهي وأشرب من مياه بحيرة (مسعدة)، وإن استطعت سأسبح فيها كما كنت أفعل من خمسين عاماً.. مات أبي على حلمه.
جدي آخر شهود البلاد من الرجال كان يقص الحكايات، ويرتل القرآن، ويغلي قهوته المرّة على حلم عودة ابنه الشهيد في معركة النزوح، وكان يعتقد حتى قبل موته بلحظات أن الشهيد سيعود مزنراً بقيود أسره، وأن الصهاينة الملاعين سيفرجون عنه في كل تبادل للأسرى.. لكن (عبد اللطيف).. لم يعد، وهاهي بقايا جدي بعد موته.. راديو قديم بجلد أسود، وقبعة بيضاء، وسلة بصاق ولعنات على من اغتصبوا (عيون حور)، وحولوه إلى عجوز يعيش في منزل على أطراف المدينة منحته إياه الأوقاف بعد أن كان من أوائل الذين بنوا بيتاً من حجر الجولان الأسود.
أمي (أطال الله عمرها) ورثت من الرجلين الدموع والذكريات، وأغنيات الحصاد، وأدعية انقطاع المطر، وسورة الفاتحة لصلاتها وبعض قصار السور.. أما تاريخها على هذه الأرض فلخّصته في موت بكرها (علي)، والمنزل الأول الذي استأجرته العائلة في دمشق بعد النزوح الكبير.
تتشابه الأحاديث، القواشين (أوراق الملكية)، المفاتيح الطويلة، البساتين، الزرائب، الخطوات الحافية، الأحلام التي لم تقتلها الروح النازفة، شكل الوطن المستلب، الدبكات، الأغنيات، والصياح بين البيوت ذات ليلة مثلجة من أيام الجولان الباردة.
الآن ثمة من انتهكت ذاكرته على وقع الليالي الطويلة، وثمة من تشوه حلمه المنقول، ومن اخترقت ذاكرته فوضى المدينة فأنسته هدوء القرية المستلبة..ثمة من يقف على أعتاب الأيام السريعة بلا ذاكرة.. ترى كيف تواجه سؤالاً مباغتاً من صديق لا يعرفك: ألن تسافر في العيد إلى قريتك، ضيعتك.. على الأرض ثمة من مسح قريتي عن الوجود وبنى فيها زريبة له ولخنازيره، وثمة من يشرب الآن، وفي هذه اللحظة خمره في بستان جدي، وثمة من يبول على جذع شجرة حور عليها بصمات أيد حبيبة رحلت.
ما زلنا - نحن أبناء الجيل الثاني من نازحي الجولان - نلد الذكريات لأبنائنا، ونمرر الصور التي ورثناها على شاشة عيونهم، هذا تل (أبو الندى)، والعزيزيات، وهناك أكثر من 160 قرية مسحت عن الوجود، نهر البانياسي، فيق، الزّوية، الكرسي، البطيحة، عين فيت وزعورة، الغجر، مسعدة، مجدل شمس.. الأسماء التي لا تغيّبها المستوطنات.. وطعم السمك في طبريا، التفاح الجولاني.. نكهة التراب الذي لا ينسى.
هنا قبورنا المؤقتة، قلوبنا الواثقة بالرجوع ذات يوم حفاة كأحلام من ماتوا.. على الحلم.